سوريا بعد عام من وصول “الشرع” إلى القصر

محمود علي – 2 –
ماتزال الفصول الخارجة عن المألوف والمعتاد في سوريا لوصول ما تسمى “هيئة تحرير الشام” إلى السلطة في دمشق تتواصل بشكل دراماتيكي ومثير لدهشة السوريين. إن تعيين عناصرها ممن لهم تاريخ حافل في ارتكاب الجرائم وممارسة الإرهاب، يهدد حاضر سوريا ومستقبلها، في مناصب عليا في الدولة، خاصة في الجيش ووزارات العدل والداخلية والخارجية، مثل “مرهف أبو قصرة”، “أنس الخطاب”، “أسعد الشيباني” و”مظهر الويس”، والأخطر هو تعيين الإرهابيين الأجانب في وزارة الدفاع مثل التركي “عمر محمد جفتجي” المسؤول العسكري عن دمشق، إضافة إلى منحهم الجنسية السورية، بزعم أنهم “دافعوا عن سوريا منذ خمسة عشر عاماً”، إنما يقوّض شرعية الدولة السورية، ويجعلها مرتعاً للإرهاب العالمي. وبموجب هذه الذريعة تم تجنيس آلاف الإيغور، الشيشان، التركمانستان، الطاجيك، وغيرهم ممن قدموا إلى سوريا وعملوا في صفوف التنظيمات المتطرفة الإرهابية ونكّلوا بالشعب السوري.
ظهر الوجه الحقيقي للشرع وحكومته في المجازر التي اُرتكبت في الساحل السوري خلال شهر مارس/ آذار، حيث عمد إلى توجيه إرهابييه من كل التنظيمات إلى مناطق العلويين، ونفذوا تحت يافطة “ملاحقة فلول النظام السابق” عمليات قتل على الهوية والانتماء الطائفي والمذهبي، واقتحمت عناصره الإرهابية جميع مناطق العلويين وأبادت عوائل بأكملها، ولم تفرق بين طفل أو امرأة أو كبير في السن، والعديد من الشبان قُتِلوا أمام ذويهم، دون إبداء أي نوع من الرحمة أو الإنسانية. بل كانوا يقولون علناً بأن قتل العلويين من أعمال الجهاد في سبيل الله. ويوثقون معظم عمليات القتل وينشرونها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. لم يكتفوا بكل ذلك، بل عمدوا إلى خطف النساء والفتيات العلويات وبيعهن في أسواق النخاسة التي افتتحت في إدلب، في امتهان واضح لكرامة الإنسان والمرأة خصوصاً. وما تزال عمليات قتل العلويين بسبب انتمائهم الطائفي وبجريرة النظام السابق مستمرة في مناطق الساحل السوري، وكذلك في جميع المناطق التي يسكن فيها العلويون في الداخل، مثل حمص ودمشق وريف حماة الغربي، ويدعون علناً إلى إبادتهم عن بُكرة أبيهم.
بالتزامن مع مجازر الساحل؛ توغلت إسرائيل داخل الأراضي السورية؛ وسيطرت على مساحات واسعة في الجنوب، خاصة مناطق القنيطرة ودرعا، وباتت على مشارف العاصمة دمشق، ولم تعد تبعد عنها سوى 20 – 30 كم فقط، إلا أن “الشرع” وحكومته لم ينبسوا ببنت شفة، والتزموا صمت القبور، وكأن ما يحصل هو في دولة أخرى وليس في سوريا، بل واصلوا عمليات قتل العلويين، وامتدت أعمالهم الإجرامية إلى شخصيات وطنية وأكاديمية، مثل دكاترة الجامعات والأطباء، حيث قتل عميد كلية الهندسة المدنية في جامعة حلب، ودون أي سبب وجيه، وتحولت المدن السورية إلى ساحة لتصفية الحسابات والقتل والخطف من أجل تحصيل الفدى المالية والإتاوات، لتُسجَّل تلك الجرائم تحت اسم فاعل مجهول، رغم أنهم من أزلام السلطة، ولكن لا حسيب ولا رقيب. لقد تحولت سوريا خلال فترة أشهر قليلة إلى غابة، ولم يعد المواطن يشعر بالأمان، لا على نفسه ولا على ممتلكاته.
في هذه الفترة الحرجة التي تمر بها سوريا، قدمت قوات سوريا الديمقراطية مبادرة وطنية للوصول إلى حل وطني لوقف نزيف الدم السوري، واستعادة الأمن والاستقرار، والحفاظ على وحدة البلاد وسيادتها، وذلك بالتوقيع على اتفاقية 10 مارس/ آذار بين كل من القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي” والرئيس السوري المؤقت “أحمد الشرع”. تلك الاتفاقية التي تضمنت ثمانية بنود رئيسية، أولها وقف إطلاق نار شامل على جميع الأراضي السورية، والحفاظ على وحدتها وسيادتها، إضافة إلى ضمان حقوق الشعب الكردي دستورياً، واندماج قوات سوريا الديمقراطية ضمن الجيش السوري المزمع تشكيله، ككتلة واحدة دون حلها، وكذلك التشارك في الثروات، إضافة إلى إعداد دستوري سوري تشارك فيه جميع مكونات الشعب السوري. على أن تشكل لجان مختصة لمناقشة تفاصيل تلك البنود، والوصول إلى توقيع اتفاقيات. وكانت الولايات المتحدة تعمل دائماً على تقريب وجهات النظر بين الطرفين، وهي من ساهمت بشكل فعال للتوصل إلى ذاك الاتفاق.
من جانبها الإدارة الذاتية شكلت وفداً ضم خمسة أشخاص إضافة إلى متحدثين اثنين باسمه، وعقدت جولة حوار لها في مايو/ أيار الماضي، ولكنها توقف الحوار بعد تدخل تركي مباشر في مساره، فيما عقدت جلسة أخرى في يوليو/ تموز شارك فيها القائد العام لـ(قسد)، واتفق الجانبان على الجولة القادمة في العاصمة الفرنسية باريس. إلا أن تركيا تدخلت فوراً وضغطت على “الشرع” وحكومته لرفض الاجتماع في باريس، لقناعتها أن حكومة دمشق ستقدّم تنازلات في باريس، وتوقع على اتفاقات هامة بخصوص تنفيذ بنود اتفاقية 10 مارس/ آذار. إلا أن المبعوث الأمريكي إلى سوريا “توماس باراك” لعب دوراً سلبياً حينها، من خلال موقفه المساند لحكومة دمشق، ورفضه كل أشكال اللا مركزية والفيدرالية، قائلاً إن سوريا ستبقى واحدة وذات علم وجيش واحد، داعياً إلى حل قوات سوريا الديمقراطية ضمن ما يسمى الجيش السوري. لكنه سرعان ما تراجع عنها، بعد أن أدلت وزارة الخارجية الأمريكية ببيان معاكس لتصريح “باراك”، أوضحت فيه أن الوضع السوري يقبل حتى الفيدرالية، ولكن السوريون أولى بتحديد مصير بلادهم.
في ذات الوقت واصلت حكومة “الشرع” التفاوض مع إسرائيل في أذربيجان وباريس وبلدان أخرى، بهدف التوقيع على اتفاق أمني، وتقديم ضمانات لإسرائيل بعدم تعرض أمنها القومي لأي مخاطر من قبل المجموعات الإرهابية المتطرفة التي ترعاها الحكومة السورية الانتقالية.
تواصل مسلسل فظائع “الشرع” والقوى المتطرفة الموالية له عبر هجوم قوات وزارة الدفاع والأمن العام، وما سميت بقوات العشائر مدينة السويداء وريفها في منتصف الشهر السابع. إن الهجوم على السويداء شكّل حدثاً غيّر المشهد السياسي والعسكري في سوريا. حيث حشدت الحكومة لشن الهجوم على السويداء وريفها قوات كبيرة تحت اسم “فزعة العشائر”، وهي لم تكن سوى استدعاءً لقوات تنظيم “داعش” الإرهابي من “تلول الصفا” و”جبل أبو الرجمين” في بادية تدمر، حيث أكدت مصادر إعلامية واستخباراتية دولية وإقليمية أن الحكومة نقلت الآلاف من عناصر تنظيم “داعش” الإرهابي عبر الحافلات إلى السويداء، بعد أن زوّدتهم بالعتاد والذخيرة اللازمة، وارتكبت مجازر فظيعة في مدينة السويداء وريفها، راح ضحيتها المئات من الأطفال والنساء وكبار السن، وكانت شبيهة بمجازر الساحل بل فاقتها، كما أحرقوا البيوت والمحال بعد أن سرقوها، وفجروا المقامات والمزارات الدينية الخاصة بالموحدين الدروز. كل تلك المجازر والجرائم تمّت لأسباب طائفية ومذهبية، حيث كشفوا عن ذلك عبر المقاطع المصوّرة التي نشروها على وسائل التواصل الاجتماعي، وهم كانوا شهوداً على أنفسهم قبل الآخرين.
تدخلت إسرائيل لحماية الدروز بعد أن ارتكبت قوات حكومة دمشق أبشع المجازر بحقهم، وتمكنت إسرائيل من الضغط على “الشرع” وحكومته وحمله على سحب قواته من السويداء وريفها، وفرض وقف إطلاق النار بالقوة، وأذعنت الحكومة السورية لتلك الضغوط وسحبت قواتها، لكنها عمدت إلى فرض الحصار عليها، وممارسة سياسة التجويع على المدنيين فقط لكسر إرادة الدروز، خاصة بعد أن أعلن شيخ الطائفة “حكمت الهجري” عن حق تقرير مصير الدروز في السويداء التي أطلق عليها “جبل باشان”.
إن شن قوات “الشرع” ومرتزقة الاحتلال التركي هجومهم الدموي العنيف والشامل على حيي الشيخ مقصود والأشرفية في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول، شكل انكساراً كبيراً لدى السلطة برمتها، ووضع مصداقيتها وقوتها على المحك. فهي كانت تعتقد أنها وضعت مخططها وستتمكن من اقتحام الحيين وارتكاب مجازر فيهما على غرار المجازر التي ارتكبوها في الساحل والسويداء. دون شك الهجمات شُنَّت بتوجيه وتخطيط مباشر من دولة الاحتلال التركي، بهدف عرقلة الحوار بين الإدارة الذاتية ودمشق وعدم الوصول إلى أي اتفاقيات. إلا أن الهجوم قوبل بمقاومة كبيرة من قبل قوى الأمن الداخلي وأهالي الحيين، ولم يتمكن أي عنصر من دخول الحي، وتم دحر الهجوم، وتكبيد المهاجمين خسائر فادحة، فيما لاذ ما تبقى منهم بالفرار تحت الضربات القوية للقوة المدافعة عن الحيين، وهو ما اعترف به المرتزقة أنفسهم. وكان المرتزقة قد عمدوا إلى فرض حصار جائر وخانق على الحيين، منعوا فيه دخول وخروج الأشخاص واعتقال الكثير منهم، كما منعت إدخال أي مادة إليهما، إضافة إلى تفتيش كل من يود دخول الحيين.
الهزيمة التي لحقت بهم في الشيخ مقصود والأشرفية؛ أجبرتهم على قبول وقف إطلاق النار، ولكنهم عادوا بعدها إلى ممارسة سياسة التضييق وفرض الحصار. إلا أن تلك السياسة أيضاً أُبطلت مفاعيلها وانهارت أمام صمود ومقاومة أهالي الحيين، إضافة إلى النتائج الإيجابية التي توصل إليها وفد شمال وشرق سوريا مع الحكومة في دمشق، والاتفاق – شفوياً – على إدماج قوات سوريا الديمقراطية وقوى الأمن الداخلي ضمن هيكلية الجيش السوري وقوات الأمن العام، حيث أعلنت (قسد) أنها ستدمج قسماً من قواتها، وقوامها ثلاث فرق عسكرية ولواءين، على شكل كتلة، وتنتشر في مناطقها. إضافة إلى ذلك سلّمت قوات التحالف الدولي أسماء قياديين من قسد، على أن يستلموا مناصب في الجيش ووزارة الداخلية، ولكنها إلى الآن لم تتلقَ أي رد من حكومة دمشق، ما يوحي بأنها تماطل في تنفيذ تعهداتها حيال كل التفاهمات والاتفاقات الشفوية التي تم التوصل إليها في جولات الحوار والمفاوضات، خاصة مع الوفد العسكري التخصصي الأخير الذي ضم قيادات بارزة من قوات سوريا الديمقراطية.
يتبع…




