مقالات رأي

“سوريا الجديدة… خرابٌ بلا بديل”


قاسم عمر
بعد أن أُسْقِطَ النظام في سوريا، أراد البعض أن يعلنوا عن ولادة دولة، دستور جديد، حكم عادِل، نظام سياسي يحقن الدماء ويعيد للقانون هيبته. لكن بعد عام من سقوط النظام في سوريا برز الفراغ الدستوري، الفلتان الأمني والانهيار الاقتصادي في المشهد السوري العام، ليس إلا سوى سردٍ فاضح لفشل ذريع في تحقيق أبسط مكاسب التغيير.
كانت أولى الخيبات، الوعود بدستور يمثّل السوريين اختفت. فبدلاً من دستور جامع يصوغ هوية الدولة الجديدة، اكتُفيت الحكومة بـ”إعلان دستوري منحاز ومنغلق” وقوانين انتخابية محمية بصيغة الغموض والتسيّد الحزبي، ما أجهض أي فرصة لتمثيل حقيقي أو مشاركة شعبية في القرار. بهذا المعنى، لم يكن سقوط النظام تمهيداً لتحرّر، بل مجرد تبديل “وجه السلطة” من رقابة حزبية إلى قمع جديد، من خدمة شعب إلى سياسة تهميش لمن لا ينتمي.
فلم يشارك العلوي، الدرزي، الكردي والمسيحي في صياغة الإعلان، لا بل لم يكن له وجود في الدستور الجديد الذي يفترض به بأنه جامع وشامل. هذا الإعلان مثل إعادة إنتاج الشوفينية بصبغة بعثية وبطابع إسلاموي متطرف. إنكار وإقصاء التعددية الثقافية، الطائفية، الإثنية والسياسية ما هو إلا إستمرارية للنهج البعثي القائم على ذهنية الدولة القومية. فكيف يتمكن السوريون من العيش سوية قي ظل أرضية دستورية تضمن للشعوب حقوقه وحرياته التي لطالما دفعوا لأجلها الغالي والنفيس؟
لكن الوضع لا يقتصر على سوء إدارة سياسية فحسب. الفوضى الأمنية هي المنتج الطبيعي للفراغ: غياب مؤسسات أمنية موثوقة، غياب العدالة الانتقالية، كل هذا منح ذراعاً طويل للعصابات والمليشيات ليزرعوا الخوف مرة أخرى في جسد سوريا. المجازر والانتهاكات بحق العلويين، المسيحيين، والدروز ليست روايات تخويف، بل معلنة دموية، علنية، مبنية على ثأر طائفي. هذه المنظومة الاستبدادية أفظعت بجرائمها وتعدت حدود الأسدية أيضاً. آلاف العلويين والدروز تم قتلهم، التنكيل بهم، اغتصاب نسائهم وحرق ممتلكاتهم. هذه المجازر كانت وما تزال ترتكب بحجة الفلول. من هم الفلول؟ الفلول هم من يديرون سوريا بأسماء وصفات جديدة. إن دولة “ما بعد سحق النظام” أصبحت أشبه بزوبعة تحرق ما تبقّى من آمال السوريين بالعدالة والحماية. لا حماية، لا دولة، لا عدالة، لا مؤسسات وما يزال خطاب الكراهية والطائفية تسود كل الخطابات الرسمية والإعلامية.
أما من الناحية الاقتصادية، فربما تكون هنا الضربة القاصمة. انفلات أسعار، انهيار القوة الشرائية، تردّي الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والصحة، وتسريح آلاف الموظفين لأسباب طائفية أو سياسية. بالإضافة إلى استثمارات وهمية بالمليارات، لا إنتعاش اقتصادي ولا إعمار لبنى تحتية دمرت بفعل الحرب الضروس طيلة أكثر من عقد. هذه ليست نتائج احتلال أو حرب خارجية؛ إنها عن سوء إدارة داخلي، وعن غياب رؤية بديلة لإعادة بناء البلاد.
نتيجة هذا الفشل المُركّب: خيبة أمل جماعية وأحلام بالحرية والكرامة تغيّرت إلى خوف على الحياة، على الكيان، على البقاء. السوريّ الذي ضحى لأجل طموح التغيير أصبح اليوم مضطراً للهرب من حمم فوضى صنعها من ظنّ أنه سيُخيّر بدلاً من أن يُحتَكر.
وهنا السؤال: من سينتصر على هذا الدمار؟ هل تُنشأ مؤسسات حقيقية، دستور حقيقي، دولة حقيقية، أم أنّ سوريا مقبلة على أسوأ من عهد الأسد، فقط بوجوه جديدة؟
باختصار، سقوط النظام لم يكن سوى بداية لأسوأ مرحلة من فشل الدولة، ليس على صعيد بناء جديد، بل على صعيد انهيار كامل. يجب الاعتراف بأنّ النصر على الديكتاتورية قد يكون أقل خطرًا من الانتصار على ما بعدها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى