المسـ.ـتوطنات في عفرين وتكـ.ـريس التغيير الديمـ.ـوغرافي: مشـ.ـروع متـ.ـكامل يهـ.ـدد الهـ.ـوية والإنسان

قاسم عمر
تعيش منطقة عفرين منذ عام 2018 واحدة من أخطر التحوّلات الديموغرافية في تاريخها الحديث، تحوّلات لم تقتصر على تبدّل تركيبة السكان، بل مست عمق الهوية الثقافية والاجتماعية والسياسية للمنطقة. فمنذ سيطرة القوات التركية والفصائل التابعة لها، برزت سياسة منهجية تستهدف إعادة تشكيل السكان الأصليين عبر الضغط والتهجير من جهة، وبناء مستوطنات وتوطين عوائل من خارج المنطقة من جهة أخرى، بما يحوّل عفرين إلى فضاء جديد مفصول عن جذوره التاريخية.
تقوم هذه السياسات على جملة من الممارسات التي طالت السكان الكرد، شملت الاعتقال والخطف والتعذيب ومصادرة المنازل والأراضي ونهب الممتلكات. الهدف منها دفع من تبقى من الأهالي إلى المغادرة، ومنع المهجّرين من التفكير بالعودة. ومع مرور الوقت، بدأت تظهر نتائج هذا المسار، حيث انخفضت نسبة الكرد التي كانت تقارب 98% قبل عام 2018 إلى ما دون 15% حالياً، بحسب تقارير حقوقية.
ولتعزيز هذا التغيير، ظهرت موجة واسعة من بناء المستوطنات فوق أراضٍ تمت مصادرتها من أصحابها الأصليين، بدعم مباشر من جهات تركية وخليجية. تجاوز عدد هذه المستوطنات الخمسين، وجميعها تستقبل عوائل من الفصائل المسلحة الموالية لتركيا، ما يجعلها جزءاً من مشروع طويل الأمد لتكريس واقع جديد يصعب التراجع عنه.
إن بناء المستوطنات في عفرين ليس مجرد نشاط عمراني، بل خطوة سياسية مدروسة تهدف إلى خلق واقع سكاني جديد يضمن بقاء النفوذ التركي في المنطقة. فترسيخ وجود عوائل مرتبطة بالفصائل الموالية لتركيا يضمن ولاءً طويل الأمد، ويصعّب أي عملية مستقبلية تهدف إلى إعادة السكان الأصليين أو إعادة المنطقة إلى وضعها السابق.
ويبرز هنا دور الدعم الخارجي، إذ ساهمت جهات خليجية عبر جمعيات ومنظمات في تمويل بناء المستوطنات بحجة “الإغاثة”، بينما جرى فعلياً تحويل هذه المشاريع إلى أدوات لإعادة توزيع السكان. هذه المشاريع لم تُنشأ على أراضٍ فارغة، بل على ملكيات استُولي عليها قسراً من الكرد المهجّرين، ما يجعلها شكلاً واضحاً من أشكال تغيير ملكية الأرض لمصلحة جماعات جديدة.
انعكست هذه التحولات على المشهد الثقافي بشكل مباشر. فاللغة الكردية، التي كانت لغة المجتمع والحياة اليومية، بات يُنظر إليها في بعض المؤسسات المسيطرة على أنها “لغة أجنبية”، في محاولة لإضفاء شرعية على تغييبها وإقصائها. هذا الخطاب يعيد إنتاج نفس السياسات التي عانى منها الكرد لعقود، حين كانت هويتهم تُهمّش رسمياً وتُعتبر غير “وطنية”.إن إنكار لغة شعب هو إنكار لوجوده نفسه، ومحاولة محو ذاكرته الثقافية المتجذرة في المكان.
وترافق هذا مع استهداف المعالم الثقافية والتاريخية للمنطقة، عبر التخريب والنهب وتغيير التسميات، ما يُفقد عفرين جزءاً من تراثها الذي يعبّر عن حضور الكرد فيها منذ آلاف السنين. وهكذا يصبح التغيير الديموغرافي ليس مجرد تبدل سكان، بل نسفاً للبيئة الثقافية التي تربط الناس بأرضهم وهويتهم.
من الناحية الاجتماعية، أدّى التغيير الديموغرافي إلى تفتيت النسيج المحلي لعفرين. فقد كانت المنطقة تقوم على مجتمع متجانس له أعرافه المشتركة وروابطه الممتدة في جذور التاريخ، لكن تفريغ القرى من أهلها الأصليين وتوطين عوائل من بيئات مختلفة خلق توتّراً اجتماعياً عميقاً. فالمستوطنات الجديدة ليست قائمة على اندماج طبيعي، بل على واقع مفروض بالقوة، ما يجعل العلاقة بين الوافدين والبيئة المحيطة علاقة هشّة ومبنية على ميزان قوة غير متكافئ.
يضاف إلى ذلك أن الفصائل المسيطرة تمتلك نفوذاً أمنياً وعسكرياً على السكان الجدد، ما يجعل المجتمع المحلي الجديد منقسماً بين من يملك السلطة والسلاح، وبين من جرى تهميشه وطرده من أرضه. هذا الوضع يخلق بيئة اجتماعية غير مستقرة، تُسهّل استمرار الانتهاكات، وتضعف أي إمكانية لبناء حياة مدنية سليمة.
أما سياسياً، فإن الهدف من تغيير السكان وترسيخ المستوطنات يتجاوز السيطرة الأمنية، إذ يشكل محاولة لتغيير هوية المنطقة وقطع ارتباطها الجغرافي والسياسي بالمجتمع الكردي في شمال سوريا. فوجود سكان جدد مرتبطين بالفصائل الموالية لتركيا يخلق واقعاً انتخابياً واجتماعياً يخدم مصالح أنقرة، ويحول دون أي مشروع مستقبلي يضمن للكرد دورهم السياسي أو يعيد لهم إدارة مناطقهم.
ومع ذلك، فإن الأصوات المطالبة بعودة المهجرين تزداد، والدعوات لإيجاد بيئة آمنة لعودة السكان الأصليين لم تتوقف. الجهود القائمة لإيجاد حل تشرف عليه منظمات دولية تسعى إلى ضمان عودة منظمة وآمنة، إلا أن استمرار بناء وترميم المستوطنات يشير بوضوح إلى رغبة الجهات المسيطرة في فرض أمر واقع جديد قبل أي تسوية.
إن مستقبل عفرين سيبقى مرتبطاً بقدرة سكانها الأصليين على استعادة وجودهم، وبمدى نجاح الجهود المحلية والدولية في وقف سياسات التغيير الديموغرافي. فالشعوب الأصيلة التي ترتبط بأرضها وذاكرتها لن تختفي مهما حاولت القوى المفروضة إعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا لصالح مشاريعها.




