استحقاقات المؤتمر القومي الكردي

محمود علي
شَعَرَ الشارع السياسي والشعبي الكردي في روجآفا بمزيد من التفاؤل مع الإعلان عن موعد عقد المؤتمر القومي الكردي، بعد حالة من الإحباط والتذمر والقلق التي سادت جميع الأوساط من فشل محاولات عقده ونسف الفكرة من أساسها. وبمجرد تحديد الموعد يوم السبت القادم، تبددت جميع الشكوك والضبابية، وباتت العيون كلها تتطلع إلى ما سيسفر المؤتمر من نتائج، يُحدَّد بموجبه مصير الشعب الكردي في روجآفا.
أمام المؤتمر استحقاق وطني كردي كبير، يتمثل في وضع الأسس والمبادئ الرئيسية لحل القضية الكردية في روجآفا وسوريا، وكذلك تحديد نوعية العلاقة بين الكرد وحكومة دمشق، التي اتسمت خلال عهودها السابقة بالتنكر لحقوق الشعب الكردي، وكذلك إلغاء كل القوانين والمراسيم الجائرة التي اتخذتها الحكومات السابقة ضده، وتسوية التشويه الذي طال الكرد جراء تلك القوانين المجحفة، وحتى الوصول بإقرار حقوق الشعب الكردي في الدستور السوري، واعتباره من المُسَلّمات، ومادة فوق دستورية غير قابلة للنقاش والاستفتاء.
رغم وصول جميع الأطراف الكردية إلى رؤية سياسية مشتركة لحل القضية الكردية، إلا أنه لم توضح شكل تلك الرؤية وأبعادها، هل هي مؤطرة ضمن الإدارة الذاتية، أم الحكم الذاتي، أو الفيدرالية؟ وهل الأطراف الكردية لديها القدرة على تحديد شكل النظام القادم في دمشق، لتتمكن عبره تثبيت شكل الحقوق الكردية، على غرار ما جرى في العراق في اتفاقية الحكم الذاتي عام 1970؟ أما أن كل تلك الافتراضات خاضعة لنتائج التفاوض مع دمشق، وكذلك متعلقة بحجم القبول والدعم الدولي والإقليمي للكرد وبتحالفاتهم الداخلية والخارجية. بالتأكيد إن القضية الكردية ستدخل مرحلة مغايرة مع النتائج التي سيخرج بها المؤتمر، وهي سابقة لم يعهدها الكرد في روجآفا، وربما يقود الكرد سوريا برمتها نحو شاطئ الأمان، طالما أنهم القوة الوحيدة المتمسكة بعلمانية الدولة وحفاظها على وحدتها وسيادتها ضد كل أشكال التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية.
الترتيبات النهائية لعقد المؤتمر، والمتعلقة بعدد الأعضاء، يبدو أنه تم التوافق عليها بين الطرفين الرئيسيين، حيث اتفق على أن يكون عدد أعضاء كتلة أحزاب الوحدة الوطنية الكردية /190/ عضواً، مقابل /150/ عضواً من المجلس الوطني الكردي، أي بزيادة /40/ عضواً عما كان مقرراً في الصيغة الأولى. ولكن لا يُعرف إن كانت أحزاب أخرى خارج الإطارين مدعوة للمشاركة في المؤتمر.
إن النسبة التمثيلية في المؤتمر من المفترض أن تخضع لآلية عددية دقيقة ومنصفة، حسب نسب وعدد الأحزاب المشاركة في المؤتمر، وألا تخضع لمزاجية بعض الحركات، أو لديكتاتورية “الأغلبية” المتحكمة بما هو “أقلية”، بل يجب أن يكون التمثيل وازناً، وبما يحقق شروط التمثيل تبعاً لعدد الحركات والأحزاب، ويبدو أن هذه الصيغة غائبة في اختيار أعضاء المؤتمر. فإن تم تجاوز مسألة تمثيل المؤسسات الحزبية مثل المرأة والشبيبة وغيرها في حضور المؤتمر، وهذا يسجل نقطة نجاح لها، فإنه بالمقابل تم الالتفاف على هذا التوافق من خلال نسب التمثيل، والتي يبدو أنها جاءت بصيغة توافقية بين الكتلتين الرئيسيتين. هذا فيما لا يُعرف أيضاً إن كانت هناك شخصيات وطنية مدعوة للمشاركة في المؤتمر، فهناك غموض يلف هذه المسألة، وكان على اللجنة التحضيرية أن تتحدث صراحة عن هذه المسألة وما يتعلق بالمؤتمر.
من المفترض أن الحركة الكردية في روجآفا لا تسعى لاستحضار ماضيها “الخلافي والانشقاقي” ضمن أروقة المؤتمر، لطالما أنه المرض الذي ابْتُليت به منذ نشوئها وإلى اليوم. وتاريخ الحركة الكردية في روجآفا شاهد على ما شهدته من انشقاقات وتشرذمات عقب كل مؤتمر تعقده، مثلما حصل مؤخراً مع الحزب التقدمي عقب رحيل زعيمه التاريخي عبد الحميد درويش. ولتفادي هذه الحالة؛ يفترض أن تكون هناك لجنة ضامنة لسير المؤتمر نحو خواتيمه بشكل سلس وإيجابي، وألا تعكر صفوه نزوات بعض القيادات الساعية لنيل مكاسب حزبية وشخصية، وجعل المؤتمر منصة لعرض مهاراته الخطابية، وتوجيه أعماله نحو أمور هامشية، وبالتالي تفريغ المؤتمر من محتواه ومضامينه الرئيسية وتحريف مساره.
لن نستبق الحدث ونطرح رؤية تشاؤمية حول المؤتمر، وما يمكن أن يتمخض عنه، إلا أن الحذر واجب، حيث علمتنا التجربة الحزبوية في روجآفا، أن كل التجارب الوحدوية باءت بالفشل، رغم الإدراك بتغير الظروف والشروط، وأن ضغوطاً تُمارسُ على القوى الكردية في روجآفا من الداخل والخارج، لإنجاز وحدة الموقف، وترتيب البيت الداخلي الكردي، والكل يقبل أن تتأخر ولادة المولود الجديد، والرغبة تحدوهم أن يكون سليماً ومعافى، لأنه يمثل الأمل والمستقبل، ولا يحق لأحد التفريط به بأي حال من الأحوال، وكل من يحاول حرف مسار الهدف، سينال لعنة الشعب الكردي في الأجزاء الأربعة من كردستان وليس في روجآفا فقط.
يبدو أنه تم تجاوز نقاط الخلاف السابقة بخصوص العلم ونسب الحضور، وكذلك دعوة الأحزاب الكردستانية لحضور المؤتمر، واللغط الذي ساد حول اللجنة التي شكلتها الإدارة الذاتية للتفاوض مع حكومة دمشق. وأثبت الكرد أنهم قادرون على تجاوز خلافاتهم؛ إن توفرت الإرادة الوطنية في البناء والعمل المشترك، وابتعدت كل القوى عن المؤثرات الخارجية التي تحيل دون توافق الكرد فيما بينهم.
ما هو هام ويلفت انتباه الداخل والخارج؛ ما هي الصيغة التي سيخرج بها المؤتمر، لجهة الهيكلية التي ستمثل الكرد، وما هي الآليات التي ستعتمدها للحوار مع دمشق، وهل هناك تنسيق بين تلك الهيكلية واللجنة التي شكلتها الإدارة الذاتية للتفاوض مع الحكومة السورية، وما هي أوجه التقاطع بين مهام كلا الطرفين، وهل ستحيل الهيكلية المزمع تشكيلها مهامها ومسؤولياتها إلى اللجنة، كجهة تنفيذية، بعد أن يتم التوافق مع دمشق حول صيغة معينة لحل القضية الكردية، أم أنهما مساران متوازيان، مستقلان عن بعضهما. يتوجب على المؤتمر توضيح هذه المسألة، نظراً لحساسيتها وأهميتها.
هل سنشهد تغييراً في الخطاب التقليدي والكلاسيكي للحركة السياسية الكردية في روجآفا؟ مع يقيننا أن ما بعد المؤتمر بالتأكيد لن يكون كما قبله، ومن المتوجب انحسار مساحة “الأنا” الحزبوية الضيقة، وإفساح المجال أمام “الأنا” الجمعية وتغليبها، والعودة إلى المرجعية الأساسية، خصوصاً في الأمور والقضايا الرئيسية التي تهم مصير الشعب، وعدم التغريد خارج السرب العام، إلى جانب وضع آلية واضحة لبناء العلاقات البينية، بشرط ألا تعكر صفو الاتفاق العام، وتوضع محددات عامة لا يمكن لأي طرف تجاوزها أو التنصل من تنفيذ ما يترتب عليه من مهام ومسؤوليات وواجبات، وإلا لا معنى للتوافق والعمل المشترك.
عقد المؤتمر القومي الكردي في روجآفا ليس ترفاً وكرنفالاً يمكن أن يحضره البعض ويتغيب عنه آخرون؛ بل هو استحقاق وطني كردي، ويعد مفصلاً ومنعطفاً تاريخياً هاماً في مسار كفاح الكرد من أجل نيل حقوقهم المشروعة، وهو المحك لكل الأحزاب والقوى التي طالما كانت تتمسك بشعارات وطنية براقة طيلة تاريخها النضالي، ومصداقية جميعها تظهر من خلال الالتزام والمشاركة الجدية في إنجاح المؤتمر وإيصاله إلى مستوى يستطيع فيه أن يكون التعبير المباشر عن آمال وتطلعات الشعب الكردي في روجآفا. وبالتأكيد أمام الهيكلية التي ستنبثق عن المؤتمر مهام ومسؤوليات شاقة في إطلاق الحوار مع سلطات دمشق، والتمسك بالثوابت والحقوق الكردية ضمن سوريا المستقبل، وإقرار تلك الحقوق دستورياً.