مقالات رأي

لماذا يوجه باهجلي البرلمان التركي إلى إيمرالي؟

فرهاد حمي


عقدت لجنة التضامن الوطني والأخوة والديمقراطية، المُخوّلة بمتابعة الإطار القانوني لمسار السلام، اجتماعاً مفصلياً يوم الجمعة الماضي؛ خرجت منه بقرار تاريخي، التوجّه إلى إيمرالي، للقاء زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، بعد تصويت 33 نائباً من أصل 51 يمثلون 11 حزباً، فيما اختار 11 نائباً من حزب الشعب الجمهوري مقاطعة الجلسة. لم يكن هذا القرار مجرّد بند في جدول أعمال البرلمان، بل لحظة تأسيسية جديدة تتجاوز العتبة الثانية في مسار السلام، وتفتح الباب أمام مرحلة سياسية غير مسبوقة في تركيا.
يأتي هذا التطوّر بعد أن كسر زعيم الحركة القومية، دولت باهجلي، قبل أيام قليلة، أحد أكثر التابوهات رسوخاً في الخطاب السياسي التركي. ففي خطابه أمام الكتلة البرلمانية لحزبه، شدّد مجدداً على أنه إذا ما تلكأت اللجنة البرلمانية في التوجّه إلى جزيرة إيمرالي، مقرّ احتجاز أوجلان، فإنه سيتوجّه بنفسه إلى هناك، برفقة ثلاثة من أصدقائه، وبإمكاناته الخاصة. وقد دوّى هذا التصريح في أروقة أنقرة، واعتُبر خطوة تتخطّى عتبة جديدة في المسار المعقّد لعملية السلام، خصوصاً في لحظة حسّاسة تمرّ بها البلاد بعد عام كامل على انطلاق العملية.
يُدرك باهجلي، بوصفه الوريث السياسي للحركة القومية التركية، وأحد أبرز الأصوات التي تُجسّد مفهوم الدولة كفعل سيادي، أنه بات يشغل موقعاً محورياً في مسار السلام إلى جانب أوجلان. وتعكس تصريحاته الأخيرة أنه لا يتحرك ضمن حسابات حزبية ضيقة، على خلاف حزب الشعب الجمهوري وجزء من حزب العدالة والتنمية، بل ينطلق من رؤية تعتبر نفسها امتداداً لسلسلة تاريخية تقوم على فكرة بقاء الأمة التركية، ولا سيما في ظل التحولات العميقة التي تشهدها المنطقة.
وفي سبيل الدفاع عن هذه (الروح)، كما يعبّر هو، وفي ظل واقع جيوسياسي معقّد يهدّد بنية الدولة في الشرق الأوسط، يستحضر باهجلي مقولة المفكّر القومي البارز، ضياء غوك ألب: “من لا يحب الكردي فليس تركياً، ومن لا يحب التركي فليس كردياً”. كما يستعيد ما أكّده ألب في مقالته الشهيرة (الترك والكرد) عام 1922، حين شدّد على أن الميثاق الملّي يرسّم وجود أمتين، الأتراك والأكراد، ضمن إطار وطني واحد يقوم على وحدة غير قابلة للتجزئة، ووطن أمّ مشترك، ورفض بقاء أي كردي أو تركي خارج هذه الوحدة.
تتقاطع هذه المقولات بصورة لافتة مع رؤية أوجلان الداعية إلى إنهاء الكفاح المسلح، وفتح الطريق أمام السلام والديمقراطية، وترميم أخوّةٍ عمرها ألف عام. من هذا المنظور، يبدو موقف باهجلي أشبه باستعادة “روح المصالحة التاريخية”، واستعداداً للجلوس إلى جانب خصمه التاريخي، أوجلان، على طاولة واحدة إذا كان ذلك شرطاً لبلورة تسوية سياسية طويلة الأمد وقابلة للحياة.
كما أنّ هذا التحوّل لم يأتِ من فراغ، بل سبقه مسار متكامل من الخطوات التي اتخذها حزب العمال الكردستاني، بدءاً بسحب قواته من المناطق الواقعة داخل الحدود الشرقية لتركيا، مروراً بانسحابها من خطوط التماس في منطقة “زاب” على حدود إقليم كردستان العراق. ومع هذه التطوّرات الميدانية، بدا أن الكرة باتت في ملعب الدولة التركية لاستكمال المسار المتبادل، ولا سيما بعد تشكيل لجنة قانونية برلمانية مُكَلّفةٍ بنقل الملف من حيّز الصراع الأمني والعسكري إلى فضاء الحلول القانونية والسياسية، في إطار ما يصفه أوجلان بـ “الاندماج الديمقراطي”.
وفقاً لذلك، كان باهجلي يرى منذ أشهر أنّ على الدولة أن تتحرّك بلا تردّد، وبخطوات سريعة وواضحة، لضمان استكمال العملية على أسس قانونية ومؤسساتية راسخة. فبرأيه، إن أي تردّد أو بطء في اتخاذ القرارات الحاسمة قد يعيد مسار السلام إلى نقطة الصفر، ويفتح الباب أمام تعثّر جديد يبدّد ما تراكم من فرص نادرة للحل.
ومع أنّ اللجنة عقدت نحو 17 جلسة قبل الاجتماع الأخير، فإنها لم تقدّم بعد مقترحاتها القانونية إلى البرلمان. وفي المقابل، أشارت بعض التسريبات إلى موقف أطراف داخل مؤسسات الدولة، وعلى رأسها ما يُنسب إلى حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري، فيما يتعلق برفض منح اللجنة الإذن بالتوجّه إلى إيمرالي، وهي خطوة كان يعتبرها الجانب الكردي أساسية لضمان استمرار العملية. بل إن أوجلان نفسه كان يُصرّ على ضرورة هذه الزيارة، ويرى فيها نقطة ارتكاز حاسمة لاستمرار المسار بشكل جدي وفاعل.
رمزية القرار:
تكتسب خطوة توجّه اللجنة البرلمانية إلى جزيرة إيمرالي أهمية تتجاوز مجرد عقد جلسة استماع إضافية. فإتمام هذه الزيارة سيكون الأول من نوعه منذ انطلاق الاتصالات السرّية والعلنية بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني عام 1993، ومن شأنه منح عملية السلام إطارها القانوني الرسمي، وخروجها من دائرة المبادرات الأمنية الضيقة إلى مستوى الاعتراف المؤسساتي والدستوري، ما يعزز شرعية المسار ويؤسسه على قواعد دستورية واضحة.
بهذا المعنى، تعني هذه الخطوة أولاً أن حضور اللجنة في إيمرالي يرسّخ موقع أوجلان بوصفه المفاوض الرئيسي في العملية، ما يجعل استمرار عزلته بالشكل الحالي مسألة ذات أبعاد قانونية وسياسية حساسة. فوفق المعايير الدولية المتبعة في عمليات التفاوض، يجب أن يتمتع المفاوض بحد أدنى من الحرية والحركة، ما يفتح المجال أمام نقاشات جدية حول منحه حق الأمل بعد 27 عاماً من الأسر، أو سن تشريعات تسمح بإعادة النظر في وضعه القانوني.
ثانياً، يشير الجانب الكردي، وفق تصريحات البرلمانية بروين بولدان، إلى أنّ أوجلان ينتظر هذه الزيارة لتقديم رؤيته حول جذور الصراع، باعتباره طرفاً مركزياً في تشكيل بنيته التاريخية، وللتأكيد على ضرورة نقل النزاع من ساحات المواجهة إلى أرضية السلام والتحول الديمقراطي، بصفتهِ المفاوض الرئيسي عن الجانب الكردي.
ثالثاً، يرى أوجلان أنّ مهمة اللجنة يجب ألا تُختزل في الجوانب الأمنية، أو في إجراءات دمج مقاتلي حزب العمال الكردستاني، أو إطلاق السجناء السياسيين، أو إعادة المنفيين فحسب، فهذه، برأيه، مجرد عناصر ضمن مسار أوسع، ويشدّد على ضرورة أن تعالج اللجنة ثلاث حزم تشريعية أساسية تمثل الأساس الدستوري لأي تسوية دائمة: قانون المجتمع الديمقراطي، قانون الإدارة المحلية، وقانون الدولة الدستورية. وهذه الحزم ليست مجرد بنود تفاوضية، بل تشكّل إطاراً لإعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع، بما يعزز التعددية ويُنهي عقوداً من الصراع.
إصرار باهجلي والدولة المزدوجة
في موازاة ذلك، أثار إصرار باهجلي على توجّه اللجنة إلى إيمرالي جملة من التفسيرات. ففريق من المراقبين يرى في موقفه رداً على تردّد داخل حزب العدالة والتنمية تجاه هذه الخطوة، رغم إدراك أهميتها. وتذهب بعض القراءات إلى وجود توتر غير مُعلن بين باهجلي وأردوغان؛ إذ يبدو الأول أقرب إلى منطق مصلحة الدولة بمعناها السيادي والمؤسساتي، بينما يُغلّب الأخير، وفقاً لهذا التحليل، مصلحة حزبه وحساباته السلطوية.
يستشهد أصحاب هذا الرأي بقضية صلاح الدين دميرتاش، إذ رغم قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان القاضي بوجوب الإفراج عنه، يستمر التباطؤ في البتّ بقضيته، ما يُنظر إليه كرمز لتناقضات النهج الرسمي وغياب الثقة بين الأطراف، سيما وأن باهجلي أكد على إطلاق سراحه كونه قضية مسيّسة.
يبرز تفسير آخر أكثر عمقاً، يشير إلى أنّ تركيا تشهد انقساماً بنيوياً بين الدولة المعيارية (القانونية) والدولة الامتيازية، وهو مفهوم استحضره أوجلان من العالم السياسي، إرنست فرانكل في كتابه (الدولة المزدوجة) عام 1941. فالدولة المعيارية هي تلك التي تعمل وفق القانون والإجراءات المؤسسية المعتادة، بينما تقوم الدولة الامتيازية على قرارات استثنائية تستند إلى نفوذ الأجهزة الأمنية، على غرار ما كان سائداً في الحقبة النازية.
استناداً لذلك، يبرز باهجلي بوصفه أحد الأصوات القليلة التي تدعو إلى الالتزام بالقانون في ملف إيمرالي ومسار السلام، في وقت تعمل فيه الدولة الامتيازية بمنطق يناقض هذا الاتجاه. وقد ظهر هذا التوتر بشكل واضح عندما أعلن باهجلي أنه مستعد للذهاب بنفسه إلى إيمرالي، في خطوة بدت وكأنها تحدٍّ رمزي للسلطة الموازية داخل الدولة. هذا المشهد ليس مستجداً؛ ففي بدايات عملية السلام، تحدث أوجلان عن وجود صراع داخل الدولة بين جناح معياري قانوني وجناح امتيازي خارج القانون، مؤكداً اصطفافه إلى جانب الدولة المعيارية.
غير أنّ المفاجأة الأبرز تمثّلت في موقف حزب الشعب الجمهوري الذي قاطع جلسة التصويت، رغم تحالفه الضمني وغير المعلن مع حزب المساواة وديمقراطية الشعوب خلال السنوات الماضية. ويبدو أنّ دوافع هذا الموقف تعود إلى خشية الحزب من ردّة فعل قاعدته القومية الصلبة، إلى جانب رهانه على استثمار الأصوات الكردية لخدمة طموحاته السلطوية. كما تتردّد في الأوساط السياسية مخاوف داخل الحزب من أن يكون أوجلان بصدد الدفع نحو تشكيل كتلة ديمقراطية مستقلة في المرحلة المقبلة، بما يخرج الكرد من موقع “بيضة القبان” إلى موقع الفاعل الاستراتيجي على تخوم القوميين والإسلاميين. ومع هذا الموقف، انكشفت حقيقة الحسابات التي تحكم الشعب الجمهوري، ورأى معظم الفاعلين الكرد أنه ارتكب خطأً استراتيجياً فادحاً ستكون له كلفة سياسية باهظة.
في المحصّلة، تتّجه الأنظار الآن إلى إيمرالي، ويمكن القول “إن مسار السلام قد دخل فعلياً مرحلة اللاعودة”، بعد أن جرى تجاوز العتبة الثانية. فقد تحمّل أوجلان بمفرده كلفة الدعوة إلى نزع السلاح والمضيّ في مسار التسوية، مؤكداً التزامه الكامل، كما يصفه باهجلي نفسه، بفتح الطريق أمام السلام الدائم.
وبحسب تعبير أوجلان، فإن طريق السلام ليس محطة واحدة، بل مسار طويل من إزالة الألغام، وبناء الجسور، وتجاوز العتبات الواحدة تلو الأخرى. ومع قرار اللجنة البرلمانية، طُويت صفحة امتدت لنحو 150 عاماً من النفي والإعدام الذي لاحق أغلب القيادات الكردية. وللمرة الأولى، تتحوّل القيادة الكردية من موقع المطاردة والإقصاء والسجن إلى موقع المخاطَب الشرعي الذي يتحاور معه البرلمان والدولة التركية داخل إطار قانوني ومؤسساتي. إن مجرد حصول هذا التحوّل يُعد بحد ذاته لحظة تاريخية فارقة، تكشف أن المسار دخل طوراً جديداً تتبدّل فيه قواعد اللعبة السياسية برمّتها.
موقع المركز الكردي للدراسات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى