مقالات رأي

الديمقـ.ـراطية ضـ.ـمانة السـ.ـيادة ووحـ.ـدة الـ.ـدولة السورية

فيصل يوسف

منذ انطلاق مسار التغيير وخروج التظاهرات السلمية في معظم مناطق سوريا عام 2011 كان الهدف الأسمى يتمحور حول إنهاء الاستئثار بالسلطة والمضي نحو بناء دولة حديثة قائمة على الديمقراطية وتظهرها على حقيقتها التعددية القومية والدينية، تتسع لجميع السوريين دون استثناء.

وهو ما نصت عليه معظم مطالب قوى المعارضة الوطنية والقرارات الأممية في هذا الشأن، وكان آخرها القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في عام 2015 وبعد ان تم اسقاط النظام السابق في أواخر عام 2024 وفي خضم التطورات المعقدة التي شهدتها البلاد وتداعياتها الإقليمية والدولية، برزت تطرح مقولات “السيادة الوطنية” و”الوحدة” دون ربطها بتطبيق الديمقراطية، من قبل بعض القوى الإقليمية والدولية في تعاملها مع الملف السوري، ومن قبل قوى سورية أيضاً في سياق تبرير لسياسات مصلحية أو لتقويض دائرة المشاركة الشعبية.

ومع ذلك، فإن تحقيق هذه الأهداف لا يمكن أن يتم إلا من خلال ركيزة أساسية هي الديمقراطية، التي تمثل المدخل الفعلي والآلية العملية لضمان استدامة السيادة والوحدة معاً، بطريقة تحمي مصالح الشعب السوري قبل أي أجندات خارجية. إن تناول مفهوم السيادة الوطنية بمعزل عن الشرعية الشعبية يفرغه من جوهره الحقيقي. فالقوة المستدامة للدولة تكمن في قدرة مؤسساتها على تمثيل إرادة المواطنين بصدق، وضمان حقوق جميع المكونات السورية في المشاركة الفاعلة في صناعة القرار وتشكيل مستقبل البلاد.

فالشرعية الشعبية هي السند الأول للسيادة، وغياب هذا الرابط يحول السلطة إلى أداة لخدمة مصالح نخبوية ضيقة، ويضعف شعور الانتماء الوطني، ويزيد من تعرض الدولة للضغوط الخارجية، مهدداً بذلك الاستقرار والعدالة بين أبناء الوطن الواحد. ولتحقيق ذلك، يجب أن تعكس المؤسسات السورية الجديدة إرادة الشعب عبر آليات ديمقراطية واضحة وشفافة، بعيداً عن محاولات  التركيز على مصطلحات “الوحدة” و”السيادة” (على أهميتهما الحيوية) على حساب المشاركة الشعبية. أما مفهوم الوحدة، فلا ينبغي أن يُفهم كوسيلة لتبرير تجاهل التعدد القومي والديني أو السياسي، أو محاولة فرض التجانس القسري.

فالوحدة الحقيقية تُبنى على الثقة المتبادلة والاعتراف بالتنوع الثقافي والديني والقومي كرافعة للتكامل الوطني، وليس كأداة للإقصاء أو محو الخصوصيات. التنوع في سوريا يمكن أن يتحول إلى مصدر قوة وازدهار إذا ما أُدرج ضمن منظومة حكم ديمقراطية تكرس المساواة في الحقوق والواجبات، وتضمن الشراكة الفعلية لجميع المكونات والمناطق. ومن المهم أن ندرك بأن بعض الدول عندما تطرح “الوحدة” و”السيادة” وتتجاهل المرتكزات الديمقراطية لتحقيقها، قد يؤدي إلى تعزيز أنماط المركزية التي أضرت بالبلاد في الماضي.

لقد أثبتت التجربة السابقة أن المركزية المفرطة في اتخاذ القرارات السياسية والتنموية، واحتكار السلطة في العاصمة، أسهما بشكل مباشر في إضعاف البنية المؤسسية للدولة، وانتشار الفساد، وإحساس واسع بالتهميش لدى مختلف المكونات. هذا النمط من الإدارة أدى إلى تآكل الثقة الوطنية وأفضى في النهاية لانطلاق الثورة السورية. لذلك، أي مشروع وطني جاد لبناء سوريا المستقبل يجب أن يتبنى نموذجاً ديمقراطياً يضمن مشاركة متوازنة، ويعيد بناء جسور الثقة بين الدولة والمجتمع على أسس الشراكة والعدل، ويحول التنوع إلى قوة دافعة بدلاً من عامل انقسام.

تشكل الديمقراطية المرتبطة باللامركزية صيغة حكم ضرورية لبناء دولة سورية حديثة قادرة على صون السيادة والوحدة معاً.

فاللامركزية هي آلية لتعزيز الوحدة من خلال توزيع متوازن للسلطات بين  المركز والمناطق، بما يحقق التوازن بين الصلاحيات السيادية للدولة (مثل الدفاع والخارجية والسياسة النقدية) والحقوق الإدارية والتشريعية والتنموية للمناطق، ويجعل كل طرف يشعر بالمسؤولية المشتركة تجاه الحفاظ على مصالح الوطن.

كما تتيح هذه المنظومة إقامة علاقات خارجية متوازنة تقوم على التكافؤ مع الدول الصديقة والشقيقة، مستندة إلى قوة الشرعية الوطنية التي يستمدها النظام السياسي من التوافق الوطني والمشاركة الواسعة، ما يمنح الدولة السورية قدرة دبلوماسية وسيادة حقيقية، بعيداً عن التبعية أو الخضوع للإملاءات الخارجية.

فالديمقراطية التشاركية تضمن أن تكون السيادة أداة خدمة للمواطنين ويرتبط تعزيز السيادة والوحدة بتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة والاستقرار السياسي المؤسسي. فلا يمكن للاقتصاد أن يزدهر في ظل أنظمة مركزية تتسم بغياب الشفافية. الديمقراطية هي التي تفرض المساءلة وحكم القانون، وهي الشروط الأساسية لجذب الاستثمارات وحماية الملكية وتشجيع المنافسة العادلة. كما تتيح اللامركزية للمناطق استثمار مزاياها التنافسية وتفعيل اقتصاداتها المحلية وفق احتياجاتها الحقيقية، ما يعزز نمواً متوازناً ويقلص الفوارق التنموية بين المركز والمناطق.

وبهذه الطريقة، تصبح التنمية شاملة ومستدامة، وتساهم في تعزيز الانتماء الوطني وتقوية الوحدة الحقيقية. أما الاستقرار الحقيقي، فلا يمكن تحقيقه بالقوة الأمنية وحدها. الاستقرار المستدام يقوم على المشاركة والعدالة، ويضمن النظام الديمقراطي من خلال آلياته السلمية والشرعية التعبير عن الخلافات، وتشعر جميع المكونات بالشراكة الفعلية في إدارة شؤون البلاد، مما يضع حداً للشعور بالغبن الذي يفضي للنزاعات في مجالات عديدة .

فالديمقراطية توفر البيئة التي تمكن السوريين من معالجة خلافاتهم بالطرق السلمية، وتبني الثقة بين الدولة والمجتمع، وهو شرط لا غنى عنه لاستقرار دائم. إن التحول الديمقراطي في سوريا ليس خياراً فحسب، بل حاجة وطنية لتكون الدولة بعافية وفاعلة.

ويتطلب إعادة بناء المؤسسات على أسس الكفاءة والنزاهة والشرعية، بعيداً عن الولاءات الضيقة، مع التركيز على العدالة الانتقالية كخطوة أساسية نحو مصالحة وطنية شاملة. تعيد الثقة بين المكونات السورية كافة، مما يجعل الوحدة والسيادة متجذرتين في أساس شعبي حقيقي.

لا يمكن تعزيز السيادة الوطنية الحقيقية بأنماط الحكم المركزية، بمعزل عن الديمقراطية، بل من خلال صياغة دستور يؤسس لعلاقة متوازنة بين الدولة والمجتمع، ويجعل المواطن محور العملية السياسية وغايتها.

وهنا تقع على جميع القوى الوطنية السورية مسؤولية تاريخية مشتركة للدفع نحو هذا التحول. فالديمقراطية التشاركية هي الإطار الجامع الذي يمكّن من بناء سوريا حرة، ديمقراطية، موحدة، تحفظ كرامة مواطنيها وتضمن لهم الحق في حكم أنفسهم بحرية، بعيداً عن أي ضغوط خارجية أو اجتهادات تفضي للمركزية المفرطة .

 ومن هذا المنطلق، يؤكد الشعب الكوردي وحركته السياسية تمسكهم بوحدة سوريا دولةً لامركزية متعددة القوميات والأديان، ويتمتع كل مكون فيها بحقوقه بضمانات دستورية راسخة وقد أجمع على ذلك كونفرانس وحدة الصف والموقف الكوردي في 26 نيسان الماضي. إن هذه الرؤية ليست طرحاً فئوياً، بل هي مسار وطني عادل يرسخ الاستقرار ويمنع تكرار أنماط الإقصاء والتهميش التي قادت إلى تدمير البلاد ومعاناة الشعب السوري في مختلف الاصعدة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى