الكرد ومعادلة الاشتباك التركي – الإسرائيلي “الوهمي” في سوريا

محمود علي
يتراءى للمشاهد والمتبع لمسار التصعيد الإعلامي، وحالة “الاشتباك الوهمية” بين إسرائيل وتركيا على الجغرافيا السورية، أن الجانبين على شفا حرب، وقد تندلع شراراتها لأقل الأسباب، وتدخل سوريا ومعها المنطقة في أتون صراع جديد لا يتكهن أحد متى وأين ينتهي.
إلا أن ما يدور في الكواليس وفي الغرف المغلقة، يعاكس تماماً ما يصدره إعلام الطرفين، وأحياناً كثيرة تُنشَرُ وقائع مبهمة لا تمت بصلة بما يجري على الأرض من وقائع فعلية.
بداية اعتراف إسرائيل بالإبادة الأرمنية على غرار الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية لا تغير من المعادلة الموجودة شيئاً، بل طرحتها في هذا التوقيت لتستخدمها كورقة ضغط ضد تركيا وليّ ذراعها في سوريا، ففي الواقع لا تغير في المعادلات السياسية والعسكرية على الأرض، ولن تشكل إدانة لتركيا للحد من اندفاعتها أكثر للتوغل أكثر في سوريا، ورسم معادلات جديدة تتماشى مع مصالحها الجيوسياسية؟ والتناطح الإسرائيلي – التركي لا يغدو أكثر من تغطية على تفاهمات بينهما تحت الطاولة حول قضايا تتجاوز سوريا في أبعادها الأمنية والعسكرية والسياسية والإستراتيجية. وإن كانت مسألة دعم إسرائيل للدروز في السويداء، وتوجيهها ضربة ماحقة للمخطط التركي في التمركز في الجنوب السوري عبر ذراعها الحكومة السورية المؤقتة، فإنها – أي إسرائيل – تكون قد قطعت شوطاً كبيراً في تقويض مشروع التوغل التركي في سوريا، خاصة بعد أن تمكنت من تدويل قضية السويداء، وإضفاء طابع سياسي عليها، حتى وقفت تركيا أمامه عاجزة، ولم تتمكن إلا أن تقبل بهزيمتها في الجنوب السوري، ومعها حكومة دمشق أيضاً. المعادلة التي فرضتها إسرائيل في الضغط على دمشق وإلزامها على سحب قواتها من السويداء، وفتح ممر إنساني، ومن ثم فتح القنوات الدبلوماسية الغربية أمام ممثلي السويداء، جعل الأمور تخرج عن سيطرة تركيا ودمشق، ويغدو الحل دولياً بامتياز.
القضية الجوهرية في التوتر بين تركيا وإسرائيل، تتمثل في الموقف من القضية الكردية والإدارة الذاتية في سوريا. العنصر الثابت دائماً في السياسة التركية، قديماً وحديثاً، أنها لديها القدرة والاستعداد لتقبل كل شروط الطرف الخصم لها، وتتنازل هي عن جميع شروطها، مقابل نسف المساعي الكردية في الوصول إلى حقوقهم ضمن سوريا ديمقراطية. ورغم الاتهامات التي توجهها تركيا لإسرائيل بدعم الكرد وقوات سوريا الديمقراطية في سوريا، إلا أنه على أرض الواقع ما تزال إسرائيل تقف بعيدة عن دعم الكرد، ولم تخطو خطوة واحدة نحو تأييد المطالب الكردية في سوريا، والادعاءات التركية ما هي إلا لتبرير أي هجوم مستقبلي على مناطق روجآفا والإدارة الذاتية، وكذلك لتأليب حكومة دمشق ضد قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، للدخول في مواجهة عسكرية لن تزيد إلا انقساماً وتفككاً في المشهد السوري المتأزم أصلاً.
عملية الإنزال الجوي الإسرائيلية قبل أيام في منطقة “الكسوة” جنوبي دمشق، ورغم أن إسرائيل لم تكشف عن تفاصيلها، إلا أن ما تناقلته الوسائل الإعلامية؛ أكدت أن إسرائيل استهدفت قاعدة عسكرية تركية في أماكن انتشار ما كانت تسمى سابقاً “الفرقة الأولى”، وعثرت على أجهزة تنصت على القاعدة الإسرائيلية في قمة جبل الشيخ، وتمكنت القوات الإسرائيلية من تفكيك تلك الأجهزة وإيصالها إلى إسرائيل، فيما قيل إنها خطفت عدداً من الضباط الأتراك أيضاً. وتكررت عمليات من هذا النوع عدة مرات في الساحل أيضاً. ولم ترد تركيا عليها، بل التزمت بالصمت. وفي هذه المرة الأخيرة ردت بقطع العلاقات التجارية والاقتصادية، ومنع الطيران الإسرائيلي من المرور في الأجواء التركية. إلا أنه على الأرض كانت السفن التركية تشحن البضائع التركية من موانئ مرسين ومدن تركية أخرى لنقلها إلى إسرائيل، ما يعزز من القناعة أن السيناريو المعد بين الطرفين مشابه لسيناريو سفينة “مرمرة” عام 2010. وحاولت تركيا أن تجسَّ نبض إسرائيل عبر تدريب الجيش السوري، بموجب التفاهمات الموقعة بينهما، إلا أن إسرائيل عرقلت خطط تركيا، وفرضت شروطها في الميدان.
التشابك الوهمي بين إسرائيل وتركيا لا يتعلق بذرف الأخيرة الدموع على غزة المنكوبة، ويتجاوز في بعده الإستراتيجي السويداء وسوريا، ليصل إلى رسم خرائط النفوذ والمصالح والأمن في المنطقة، والتي تعد القضية الكردية في صلب كل القضايا التركية، الداخلية والخارجية. تركيا المتخوّفة من حدوث تصدعات في جبهتها الداخلية، تخشى كثيراً من المحاولات الإسرائيلية لرسم خرائط نفوذ ومصالح جديدة في المنطقة، مشفوعة بالدعم الغربي المفتوح، لِتُعِدَّ هندسة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، اعتماداً على الشعوب والحركات التي كانت ضحية الخرائط السياسية التي رسمتها مسطرة سايكس – بيكو ولوزان، وباتت تشكل عقبة في العقيدة والمخيال الإسرائيلي، وأنه يجب نسفها وإعادة رسمها بما تتوافق مع مصالح “إسرائيل الكبرى” والشرق الأوسط الجديد، وتركيا من ضمن تلك العقبات، وهذا سر المخاوف التركية كما يعبر عن الساسة الأتراك.
فإن كانت الجمهورية التركية الراهنة هي وليدة لوزان، فإن إلغاءها ينسف معها وجود الوليد الذي ما يزال مرتبطاً بحبل السرة مع الأم التي ولدته، وهذا ما تدركه تركيا، وترتعد فرائصها له، ومن هذا المنطلق بادرت إلى طرح مشروع حل القضية الكردية، وفتح القنوات مع القائد الكردي “عبد الله أوجلان”، لتعزيز جبهتها الداخلية، وكأنها تعيد سيناريو “ملاذ كرد” قبل أكثر من تسعمئة عام، وكذلك ما تطلق عليه “حرب التحرير الوطنية” في 1918. فكلما وجدت تركيا نفسها أمام منعطف تاريخي حاسم قد يقوض وجودها ككيان، تلجأ إلى الكرد، وبعد أن تتمكن من تجاوز محنتها الوجودية، تنقلب على الكرد، وتبدأ بحملات الإبادة، وأولها الإبادة الثقافية.
لا تستطيع تركيا أن تتجنب التطورات العاصفة والسريعة في المنطقة، وهي ما تزال متمسكة بعقيدتها وإيديولوجيتها القوموية، وإذا ما أضفنا حقنها بالإيديولوجية الدينية في فترة حكم حزب العدالة والتنمية، فإنها غير قادرة على هضم وقبول هذه التطورات، والانسجام مع روح العصر، فبنية وتركيبة ذهنية الدولة التركية ونخبها الفكرية والسياسية، وحتى المجتمعية، غير قادرة على إحداث التغيير المطلوب، وقبول الجديد المختلف معها في التصورات والذهنية، وبالتالي هي تلعب في ساحة مليئة بالألغام، وتخشى من نفسها على الانخراط بشكل فعلي وجدي في الإقدام على تغيير مواقفها وإستراتيجياتها، وأولها تجاه القضية الكردية. الثابت أن ادعاء تركيا وتوصيفها الممجوج بأن جميع مشاكلها ستنتهي فور “القضاء على الإرهاب”، حسب زعمها، لن ينقذها مما ينتظرها من مفاجآت قد لا تسرها، فهي مازالت تختبئ وراء أصبعها، وتخفي مشاكلها وقضاياها الإستراتيجية، وما تزال تنظر إلى أن القضية الكردية هي “قضية إرهاب”.
ليس إسرائيل فقط، بل حتى الدول الغربية التي أنشأت تركيا مثلما أنشأت جميع دول المنطقة بما فيها إسرائيل، هي أمام مشروع استراتيجي يتجاوز البنى القوموية والدويلات التي أسستها، وهي بصدد تغيير الخرائط، وإزاحة بعض الدول من خارطة المنطقة، فإن تمكنت تركيا أن تتصالح مع الكرد ومع نفسها، يمكن لها أن تحظى بدور إقليمي فاعل، وإلا فإن الاعتماد على دبلوماسية الدولة القومية – الدينية، واللعب على المتناقضات، وخلق قوى دونكيشوتية تستخدمها كأدوات لها في مشاغلة القوى الكبرى في المنطقة والعالم، والتهديد بورقة “الإخوان المسلمين” والإرهاب في خلط الأوراق، لم تعد تؤتي أُكُلها.
تبدلات المشهد السياسي والعسكري في سوريا، بعد الأخطاء السياسية الكبيرة والمصيرية التي وقعت فيها الحكومة المؤقتة، خاصة بعد أن وضعت القوى الدولية سوريا تحت المجهر، وارتدادات الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها في الساحل والسويداء، عليها وعلى حلفائها؛ تجعل فرض تركيا في توسيع نفوذها، أو الاحتفاظ به في سوريا محفوفةً بالمخاطر. فالنهج الذي تفرضه تركيا على حكومة دمشق، في رفض التوافق مع الإدارة الذاتية وتطبيق بنود اتفاقية 10 مارس/ آذار، واستقدام المزيد من الإرهابيين الأجانب إلى سوريا، واعتبارها ذراعاً لها يمكن لها أن تغير بهم معادلات التوازن على الأرض، يدفع بالمجتمع الدولي إلى التفكير بوضع سوريا تحت البند السابع من ميثاق مجلس الأمن، وبالتالي وضعها تحت الوصاية الدولية.
فمثلما كانت إيران تحتفظ بقوات عسكرية وميليشيات مرتبطة بها، وتملك ترسانة كبيرة من الأسلحة والذخائر، وتسيطر على معظم مفاصل القرار السياسي والعسكري والاقتصادي السوري، وخلال ليلة وضحاها أصبح هباء منثوراً وكأنه لم يكن موجوداً، كذلك إن واصلت تركيا سياستها وعنجهيتها في التعامل مع سوريا بهذه الوتيرة، من غير المستبعد أن تلقى ذات المصير، إن لم تتعامل بندية مع سوريا وجميع مكوناتها، وخاصة مع الكرد.