قراءة في تضاريس الطريق إلى جوائز نوبل للسلام وفي استحقاقاتها

كمال حسين
رغم أن الحظ لم يحالف أخيراً كلاً من السيدة الهام أحمد والشاعر أدونيس في الحصول على أي من جوائز نوبل لهذا العام؛ على الرغم من أن زخماً كبيراً في وسائل الإعلام قد رافق ترشيحهما؛ الأولى لنيل جائزة نوبل للسلام والثاني نوبل للآداب.
إلا أنه قد شكل ترشيحهما كمواطنين سوريين، وضمن الحالة السورية الراهنة أصداء كبيرة ومعان ودلائل لافتة، ولئن جاء الفوز في جائزة نوبل للسلام من نصيب زعيمة المعارضة الفنزويلية “ماريا كورينا ماشادو” لجهودها الكبيرة المبذولة في توحيد نشاط الحركات الديمقراطية، والحركات الداعية للعدل والمساواة والسلام في المجتمع الفنزويلي؛ فإن ترشيح المناضلة السورية “إلهام أحمد” ذات النشاط البارز في الحركة النسوية السورية، وفي التجربة الكفاحية لمجلس سوريا الديمقراطية، ثم كأول امرأة رئيسة مشتركة للهيئة التنفيذية في الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا، في مرحلة المواجهة مع تنظيم داعش الإرهابي؛ لابد أن يكون رسالة توضح لشعوب العالم قيمة الدور الذي تنهض به الحركة النسوية السورية ضد الإرهاب، ومن أجل السلم والاستقرار في ظل الإدارة الذاتية لقسم كبير من الجغرافيا السورية، سيما وأن ذلك يتقاطع مع الذكرى العاشرة لولادة قوات سوريا الديمقراطية.
ولأن العمل من أجل السلام ودحر منطق العنف والقتل والحرب ضد الإرهاب؛ هو هاجس البشرية العاقلة اليوم، وليس أي استقطاب ذي طبيعة أيديولوجية آخر؛ فلن يغيب عن لجان منح الجوائز العالمية الكبيرة في نوبل أو غيرها هذا الاهتمام بصفته التحدي الأول الذي يواجه العصر، ويشكل سمته الأساسية، وعلى هذا النحو لم يكن ليخرج عن هذا الاعتبار، وفي الحالة السورية النظر إلى ترشيح الشاعر والمفكر الكبير “أدونيس” للحصول على نوبل للآداب للمرة الثامنة عشر، فالشاعر التسعيني، المنحدر من أوساط العلويين، صاحب التفكير العلماني في فهم السياسة والثقافة والدولة منذ عشرات السنين، والبعيد عن أي علوية سياسية أو دينية؛ يجد نفسه وهو في معان عملية الترشح يواجه ردّات فعل همجية وغبية من جمهور إسلاميين لا علاقة لهم بأي شكل من أشكال الذوق أو الثقافة والموضوعية؛ ردات فعل تحاسب أدونيس العابر للطوائف والأعراق على موقفين، الأول موقفه من ما يسمى بالثورة السورية واعتبارها عملاً راديكالياً عنيفاً لا يرقى إلى سمات الثورة، والثاني، خروجه في باريس على رأس المظاهرة المنددة بالمجازر التي ارتكبت في الساحل السوري.
أخيراً، لم يحصل أدونيس على نوبل للآداب هذا العام، وكانت من نصيب الكاتب المجري “لاسلوكر اسنهورداي” لكن وزن أدونيس كداعية للعلمنة، وتجاوز الموروث الخاطىء، وللسلام بين الشعوب لن يتوقف، وإبداعه الأدبي لن يتوقف هو الآخر عن إثارة الاهتمام الدائم حول مشروعه في النقد والمراجعة.
والسيدة الرمز “إلهام أحمد” لم تخرج هي أيضاً من السباق؛ بل قد تكون مازالت في عمق الطريق إلى الجائزة، ولأن الجائزة الأكبر التي أحرزتها أنها ستبقى هي ومدرستها الكفاحية من أجل السلام والمساواة والديمقراطية على رأس قائمة المرشحين، ليس على صعيد لجان الترشيح والقبول فقط؛ إنما على مستوى التفكير والعقل والرأي العام.
أما أن يخسر الرئيس الأمريكي ترامب السباق إلى نوبل للسلام؛ فهذا شأن آخر، ولا يعد نهاية المطاف، ورغم أنها تعد نقطة إيجابية لصالح ناحية العفة والنزاهة في طرائق منح الجائزة؛ إلا أن ذلك قد يعد حافزاً للرئيس ترامب لأخذ السياسة الأمريكية في قادم الأيام إلى إنجازات أكثر حيادية في العلاقات الدولية، وأكثر قرباً من متطلبات مجتمع السلام والعدل والديمقراطية التي تجسد قيم المجتمع المدني ببعده الإنساني والأخلاقي في بلدان الحداثة الرأسمالية؛ حيث يحتدم التنافس هناك على النفوذ بين نزعتين، الأولى، تمثل مصالح الاحتكارات في السلطة الدولتية العنفية التي لا تتوانى عن افتعال الحروب بحثاً عن السيطرة، وبين النزوع إلى السلم والاستقرار، ومحاربة البطالة، وتعميق برامج الرعاية الاجتماعية، وكما في الدفاع عن البيئة النظيفة. هذه القيم التي تروج لها مؤسسات المجتمع المدني، والمنظمات الإنسانية، وحماة البيئة، وعند هذه الفكرة تتجسد واحدة من أهم التنظيرات الأوجلانية التي نظرت إلى دول الحداثة الرأسمالية وفق بعدين، أخلاقي، قاعدته المجتمع المدني، ولا أخلاقي، مركزه في تكريس هرمية الدولة والعنف، وتغليب مصالح الاحتكارات.
لن يتوقف الحديث عن جائزة نوبل للسلام، وسيتعزز السباق لنيلها، كما ستزداد رمزيتها كشهادة تمنح لمستحقيها، وسينخرط الرأي العام العالمي بدرجة أكبر بأخبارها وتفاصيلها، وأفضليات منحها، ولا شك بأن دخول الرئاسة الأمريكية على خط السباق نحوها سوف يكسب العملية اهتماماً ووقعاً متزايداً لدى وسائل الإعلام، وفي حديث عامة البشر. لكن ما دام الصوت مرتفعاً حول حديث السلام، وحول لزومه لإنقاذ استقرار الحضارة البشرية من مخاطر الحرب، وتهديد قوى الإرهاب والقتل؛ فمن الحريِّ بالبحث أن يتوجه إلى صاحب فلسفة السلام، وأن يسلط الضوء على برنامجه الساعي لإقامة مجتمع السلام والمساواة والديمقراطية، إنه القائد الفيلسوف عبدالله أوجلان.
فالطريقة الأوجلانية في إرساء قواعد السلام تعتمد على البحث والتحليل في جذور العنف، وفي دوافع الحرب؛ هو لم يصطف في تقييمه ضد العنف فقط، بل دلل على آليات نشوئه، وربطها بثالوث الطبقة، الأمة، فالدولة. علقها موضوعياً بقيم المجتمع البطريركيّ الطبقي الأبوي، هذا المجتمع الذي لم يتوانَ عن إدانته وتحقيره ككثير من الفلاسفة الذين سبقوه، كماركس وانجلز، إلا أن الجديد عند اوجلان إنه قد أضاء الطريق إلى وسائل تجاوزه ونفيه واستبداله.
لقد أجادت الفلسفة الأوجلانية في ولوج الهدف حينما قسمت التاريخ إلى حقبتين، حقبة بطريركية نشأت في ظلها الدولة والنزوع الدولتي وتكرس في سياقها الاستلاب والعنف والحروب، وإلى حقبة سابقة للبطريركية، مرحلة ما قبل الدولة؛ حيث ريادة المرأة، وهي المرحلة التي لم تشهد فيها البشرية أياً من مظاهر الحروب والعنف، كما لم تبرز فيها أي دواعي للصراع والتناحر بين المجتمعات.
المفكر أوجلان لم يتقص في ملامح وظروف مجتمع السلام والمساواة والديمقراطية فقط؛ بل وضع المانفستو الواقعي لبلوغ ذلك، لقد بحث في الطرق الأمثل لتفعيل مساهمة المرأة في تصحيح مسار البشرية المعاصرة نحو السلام والتشاركية الحية، وقد وضع، وطوَّر العلوم الاجتماعية التي تسند خياراته في تحقيق السلام واقتلاع العنف من جذوره. إلى ذلك، يصبح الحديث عن حوافز العاملين من أجل السلام، وتصبح الجوائز استحقاقاً لازماً ومتأخراً عن تاريخ سداده لأوجلان وللمدرسة الأوجلانية عامة.