خارطة النزاع: كيف تُعيد القوى الإقليمية والدولية رسم سوريا؟

قاسم عمر
في قلب الشرق الأوسط يُشهد اليوم إعادة ترتيبٍ جيوسياسي لم يسبق له مثيل، حيث تبدو الاتّفاقيات التي تُعرف بـ الإبراهيميّة وكأنّها إعادة تشكيلٍ للخرائط السياسية والجغرافية للمنطقة على غرار سايكس – بيكو باسْمٍ جديد. إنّها ليست مجرد “مصالحة” أو “تطبيع” بين دول، بقدر ما هي إعادة تقسيمٍ للمجتمعات وشرذمتها، والتحكّم في مصائر شعوبٍ لم تختر واقعها بنفسها.
في سوريا، يظهر المشهد بوضوحٍ أبلغ. فعمليات القتل الجماعي في الساحل والسويداء، واستخدام اسم العشائر فيها، والتهديد المتصاعد للمكوّن الكردي، كلّها عناصرٌ في معادلةٍ تسعى إلى زيادة الشرخ بين مكونات المنطقة. إنّ النظام الذي جُهِزَ من الخارج (بريطانيًّا وأميركيًّا) يُطبّق سياسات الغرب في توسيع الفجوة بين الشعوب والمجتمعات، وتغذية الحقد والكراهية، وروح الانتقام، لقرنٍ جديدٍ من الصراع.
في الجنوب السوري، انتهى هجوم السويداء إلى تنازلاتٍ واسعةٍ شملت كامل الجنوب لإسرائيل، أما الساحل السوري فهي ستكون تحت الوصاية الروسية بغطاء تفاهماتٍ غير معلنةٍ بين موسكو وواشنطن، هدفها ضبط التوازنات بما يضمن أمن إسرائيل. في المقابل، تُمارس القوى الغربية ضغوطًا مكثفة على مناطق الإدارة الذاتية، خصوصًا في ملفي الرقة ودير الزور، حيث تسعى هذه القوى إلى تحجيم النفوذ المحلي وتقليص هامش استقلال القرار السياسي والعسكري.
إنّ ما يجري اليوم ليس مجرد إعادة توزيعٍ للنفوذ، بل إعادة هندسةٍ كاملةٍ للحدود والمجتمعات. فالمشاريع الإقليمية من أنقرة إلى طهران تسير بخطٍّ متوازٍ مع الاستراتيجية الغربية الهادفة إلى إعادة رسم الشرق الأوسط وفق محددات الأمن الإسرائيلي. وبينما تُرفع شعارات مكافحة الإرهاب أو حفظ الاستقرار، تُنفّذ في الخفاء عمليات تغييرٍ جيوسياسي عميق تُغيّر ملامح المنطقة ديمغرافيًّا وسياسيًّا.
بالنسبة لمناطق شمال وشرق سوريا، فهي تجاوزت مرحلة الحرب من أجل البقاء، لتدخل طورًا جديدًا من الصراع على إعادة التموضع وتثبيت المكتسبات. قوات سوريا الديمقراطية لم تعد تقاتل فقط دفاعًا عن الأرض، بل تسعى لتثبيت موقعها في أي تسوية سياسية قادمة، في ظلّ بيئةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ معقّدةٍ، حيث تتحرك واشنطن وموسكو وأنقرة وإسرائيل وبعض الدول الأخرى في رقعة واحدة، ولكلٍّ منها مصالحُ وحدودٌ تحاول ترسيمها.
لكنّ أي حرب قادم على شمال وشرق سوريا، قد لا تكون عسكريةً بالكامل؛ فحرب الإعلام اليوم أشدُّ خطورةً من السلاح، وأعمقُ أثرًا في تشكيل الوعي الجمعي. فالمعركة على العقول لا تقلّ عن المعركة على الأرض. وغالبًا ما تأتي حملات التضليل من جهاتٍ تدّعي القرب والانتماء، لكنها تعمل على إضعاف الجبهة الداخلية، وإشاعة الخوف والانقسام.
ورغم هذا المشهد الملبّد بالضباب، ثمّة إشارات تدعو للتفاؤل. تصريحات القائد العامّ مظلوم عبدي الأخيرة، التي اتسمت بالثقة والوضوح، تعكس حالة إدراكٍ متقدّمةٍ لحساسية المرحلة المقبلة، وتؤكّد أن القوى المحلية باتت تدرك حجم المخاطر، لكنها في الوقت نفسه تتمسك بخيار الصمود والدفاع عن منجزاتها.
إنّ ما يحدث في سوريا والمنطقة لا يمكن اختزاله في اتفاقياتٍ أو حدودٍ جديدةٍ تُرسم بالحبر الغربي، بل هو صراعٌ على الوعي والسيادة والمستقبل. فإمّا أن تُكتب خريطة الشرق الأوسط القادم بإرادة شعوبه الحرة، أو تُرسم مجددًا كما كُتبت قبل قرنٍ، لكن هذه المرة بلغة “السلام الموجَّه” وعباءة “الاتفاقات الإبراهيمية”.