مقالات رأي

الوجه المخفي للحـ.ـرب الإسرائيلية – الإيرانية


محمود علي
يكاد لا يختلف اثنان أن الحرب المستعرة بين إسرائيل وإيران تستند إلى صراع على النفوذ والمصالح الحيوية في منطقة الشرق الأوسط، وكل طرف منخرط فيها وفق عقيدة وإيديولوجية دينية وقوموية، محاولاً بشكل مستميت قلب موازين القوى لصالحه، وتنفيذ مشاريعه السياسية والاقتصادية والعسكرية في المنطقة.
أعلنت إسرائيل، دون مواربة، أنها تعمل – على الأقل منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 – على تغيير خارطة المنطقة، وإنشاء شرق أوسط جديد متناغم مع المشروع الأمريكي، فيما كشف الرئيس الأمريكي “ترامب” مؤخراً أن بلاده “تفرض سلاماً بالقوة”. من جانبها إيران المعتمدة على نظرية “تصدير الثورة الإسلامية” لم تُخفِ طموحها في تشكيل “الهلال الشيعي” الممتد من إيران مروراً بالعراق واليمن وسوريا ولبنان.
فشلَ المشروع الإيراني في أول امتحانٍ له في فلسطين، وتتالت إخفاقاته في لبنان، من خلال تصفية معظم قيادات الصف الأول والثاني في حزب الله، والذي كان يمثل اليد الضاربة له ضد إسرائيل، وكذلك تواصل الفشل عبر تقليص نفوذ الحوثيين في اليمن، وتأطير الحشد الشعبي في العراق ضمن إطار الدولة العراقية، وحل بعض تنظيماته نفسها تفادياً لأي ضربة مستقبلية.
اكتملت فصول انهيار المشروع الإيراني بسقوط النظام السوري، الذي شكَلَ الضربة الموجعة الأكثر إيلاماً لإيران ومشروعها في المنطقة، ما جعلها تنكمش على نفسها، وتحاول الحفاظ على ما تبقى من قوتها وهيبتها أمام الضربات المتواصلة عليها. اعتمدت إيران أسلوب إدارة الصراع مع إسرائيل والدول الغربية عبر الوكلاء، فهي تعاني من عقدة البعد الجغرافي عن إسرائيل، وسعت إلى اختصار الجغرافيا عبر وكلائها، إلا أن إسرائيل والدول الغربية أدركت تلك العقدة لدى إيران، وبدأت حربها ضدها بتقليم أجنحة وكلائها، وحتى القضاء على كامل قوتها العسكرية، وتحجيم أدوارها السياسية في المنطقة.
لا تعدم إسرائيل والدول الغربية أسباب شن الحرب على إيران، فالذرائع دائماً حاضرة في جعبتها، فالملف النووي الإيراني غدا الحجة الأقوى لديها، فيما تبقى غيرها أسباباً ثانوية وتفاصيل، فالغرب لا يهتم بما تعانيه الشعوب الإيرانية من استبداد سياسي وديني، ولا يأبه بالإعدامات اليومية لخيرة المناضلين وخاصة الكرد، ديدنه عدم امتلاك إيران السلاح النووي الرادع، الذي يمكنها من توسيع نفوذها في المنطقة على حساب إسرائيل وتركيا. وجولات التفاوض الطويلة معها لم تحد من قدرة إيران في تطوير برنامجها النووي، وأدركت الدول الغربية وإسرائيل قرب توصلها لصنع القنبلة النووية، وهو ما دفعها إلى شن الحرب عليها.
إن أي مقاربة خارج سياق رؤية الحرب على أنها صراع على الاحتفاظ بفائض القوة والنفوذ، تبدو مقاربة خاطئة، ولا ترى الوجه الآخر المخفي من الحرب. قلب الحقائق وتشويهها عبر الإعلام، يساهم في تغييبها، ويقدم صورة مبتورة لا تمثل إلا جزءاً يسيراً عن حجم الجرائم والويلات على الأرض. الدمار للبنية التحتية في كل من إيران وإسرائيل يتجاوز حدود التصور، فالطرفان لا يباليان بالضحايا من المدنيين، كلاهما يبحثان عن نصر يحفظ لهما ماء الوجه، دون الاكتراث بمآلات الحرب، وما ستخلفه من أوضاع مأساوية على المنطقة والعالم. الكل يهدد، إيران تهدد بإغلاق مضيق هرمز، وتهدد دول الخليج أو أي دولة تساند إسرائيل، وكذلك تحذر الولايات المتحدة من الانخراط في الحرب إلى جانب إسرائيل، فيما إسرائيل تهدد باكستان وجميع الدول التي أبدت دعمها لإيران. ما يشير إلى احتمالية توسيع رقعة الحرب لتشعل المنطقة بأكملها، وهو ما أشار إليه المفكر الكردي عبد الله أوجلان بأنها “إحدى فصول الحرب العالمية الثالثة الدائرة في المنطقة وخاصة في كردستان”. تغييب العقل والاحتكام إلى منطق القوة العسكرية المفرطة، قد يزلزل الأرض، وقد لا يبقي حجراً على حجر.
الكرد وحركتهم التحررية حافظوا على توازنهم في هذا الصراع، ولم تنجر الحركة الكردية بشكل عام إلى اتخاذ مواقف متسرعة في الوقوف مع طرف ضد الآخر، فليس لهم في هذه الحرب لا ناقة ولا جمل، بل ينتظرون ما ستسفر عن تغييرات جيوسياسية في توازنات المنطقة، قد يمكن استثمارها في الوصول إلى حقوقهم القومية المشروعة في كل جزء من كردستان. انهيار دول الاستبداد المتحكمة بالكرد ووطنهم، تساهم في حل القضية الكردية، إلا أن مسار الحرب، وما يمكن أن تتمخض عنه من نتائج لا يدعو إلى التفاؤل كثيراً، لجهة أنه لا يمكن الوثوق والركون إلى الوعود الغربية في إحداث تغيير ديمقراطي في إيران، وفي جميع الدول الاستبدادية والدكتاتورية في المنطقة. ولدى الحركة التحررية الكردية مخاوف عديدة ومشروعة، فسرعان ما تتوافق الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل مع إيران، حالما تجد أن الأخيرة رضخت لشروطها ومطالبها في تفكيك برنامجها النووي العسكري، وقبلت بتدفق النفط والغاز إليها، وهناك مؤشرات قوية أن تذهب إيران للقبول بتلك الشروط، فقط في سبيل الحفاظ على نظامها الثيوقراطي، ولا يبالي الغرب إن عاد النظام الإيراني بحملة تصفيات وقمع ضد مواطنيها، وتسبب في مجازر جماعية، وكل التطورات تشير إلى قرب نهاية للحرب المفتعلة، وأن النظام الإيراني سيدير بوصلته مرة أخرى نحو شعبه للانتقام منه.
التصريحات غير المسؤولة الصادرة عن بعض قيادات أطراف الحركة الكردية في روجهلاتي كردستان/ شرق كردستان، تضع الشعب الكردي في فوهة المدفع، وترتد عليه بشكل سلبي، فيما جاء بيان حزب حرية المرأة الكردستاني (PJAK) متوازناً، وكذلك كان موقف منظومة المجتمع الكردستاني (KCK)، فلم ينحاز لأي طرف، رغم أن بعض الوسائل الإعلامية حاولت تحريف بيانه، حيث ادعت أن (KCK) يدين “حرب إسرائيل على إيران”، في حين جاءت الإدانة لكل أشكال الحروب ودعا البيان إلى أخذ مصالح الشعوب بعين الاعتبار والجنوح نحو السلام.
الضخ الإعلامي المكثف والتهويل الكبير للحرب، وتصوير قدرة وإمكانية كل طرف من تدمير الآخر، هي الجزء الأكثر خطورة في الحرب. ففي حين تمت تصفية قيادات عسكرية إيرانية من الصف الأول، وإلحاق أضرار كبيرة بالمنشآت العسكرية الإيرانية، إلا أن المشروع النووي الإيراني ما يزال متماسكاً ومحافظاً على بنيته ومنشآته، وتعمل إسرائيل بكل قوة على جر الولايات المتحدة وتوريطها في الحرب، بزعم أنها لا تستطيع بمفردها القضاء على البرنامج النووي الإيراني، وكذلك تستعطف الدول الغربية وتدعي أنها تحارب نيابة عنهم، فيما تفرض شروطها على الدول الخليجية بأنها تعمل للقضاء على التهديد الإيراني ضدها، أي أن إسرائيل تسعى إلى تعويم الحرب، وتصوّر إيران أنها “الشيطان الأكبر” الذي يجب إفناءه. إلا أن إيران ما تزال تحتفظ بقوة الردع القوية، ولديها من القدرات الصاروخية ما يمكّنها من إلحاق أضرار كبيرة بإسرائيل، كما أنها تراهن على إحداث ردات فعل معارضة من قبل المجتمع الإسرائيلي على قرارات نتنياهو والقيادة الإسرائيلية، وحملها على إيقاف الحرب.
وتركيا المراقبة لتطورات الحرب بكل حذر، تتخوف من انعكاساتها عليها، وإشارة زعيم الحركة القومية التركي “دولت باهجلي” بأن “تركيا هي الهدف الأخير من الحرب” يعي جيداً ما يقوله. ففيما تتداعى آخر قلاع التيار “الشيعي – المركز”؛ فإن تركيا ونظام أردوغان – باهجلي يدرك جيداً أن الحلقة الثانية ستكون تصفية، أو على الأقل تقليم أظافر، التيار “السني” الذي تقوده تركيا، وهو ما دفع “باهجلي” للإسراع في طلب التوافق بين الكرد والأتراك في حماية الدولة التركية، ليعود إلى القائد الكردي “أوجلان” ويتوسل له. ولكن هل سينقاد الكرد بسهولة إلى الأفخاخ التركية؟ كل اليقين أن الشعب الكردي ممثلاً بحركته التحررية لن ينجر إلى ألاعيب أردوغان – باهجلي قبل توفير ضمانات دستورية لحقوقهم، وقبل إجراء تغييرات ملموسة في بنية وذهنية الدولة التركية حيال الشعب الكردي. ولا مؤشرات على إقدام تركيا على تغيير سياستها وخطابها العدائي تجاه الكرد.
لا شك أن إيران تتلقى ضربات موجعة، وتحتاج إلى سنوات عديدة للعودة إلى أوضاع ما قبل الحرب، ومن مصلحتها وقف الحرب في أي لحظة، فهي تعيش حرب استنزاف لقدراتها العسكرية والمادية والبشرية، فيما حجم الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي لجسد النظام الإيراني، يعيدنا إلى فكرة هشاشة هذه الأنظمة التوليتارية، فهي منكشفة على أعدائها بما يفوق حدود التصور، فيما هي صارمة وقمعية على شعوبها، وهو ما يدفع شعوبها لتتحين الفرصة للانقضاض عليها وتغييرها.
ما هي السيناريوهات المستقبلية لهذه الحرب، وكيف ستكون ارتداداتها على المنطقة وخاصة على كردستان وسوريا، وهل سيخرج أحد الطرفين منتصراً فيها، وهل سنشهد تغييراً في الخرائط السياسية في المنطقة؟ أم أنها لن تكون أكثر من زوبعة في فنجان، سرعان ما تعود الصفقات الاقتصادية والمادية للواجهة، وتنحل المشكلة “ببوسة شوارب”، وفق المثل الدارج. بالتأكيد الأيام القليلة القادمة تحمل معها مفاجآت عديدة، والأوضاع بعد أن تضع حرب إسرائيل – إيران أوزارها لن تكون كما قبلها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى