سوريا التي يريدها الكرد ولا تريدها تركيا

محسن عوض الله
أن تقول أنقرة إن الكرد يسعون لتقسيم سوريا، فليس في الأمر جديد. هو خطاب مُعاد، تكرّره السلطات التركية في كل محطة تشهد تقارباً كردياً سورياً، أو تطرح فيها الإدارة الذاتية مشروعاً سياسياً واضحاً. لكن أن يتزامن هذا الخطاب مع زيارة غير معلنة لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى دمشق، ولقائه بالرئيس السوري أحمد الشرع، فالأمر يأخذ منحى آخر، لا يتعلق بسوريا وحدها، بل بمخاوف أنقرة المزمنة من الكرد.
في تصريحاته الأخيرة، جدّد مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، موقفه الواضح بأن لا انفصال، ولا مشروع دولة كردية، بل سوريا موحدة بنظام لا مركزي يضمن الحقوق للجميع.
ورغم ما تحمله هذه التصريحات من تهدئة، إلا أن أنقرة اختارت التصعيد، متهمة “قسد” بتنفيذ هجمات على الجيش السوري، ومحذرة من ممر يمتد من السويداء إلى مناطق الإدارة الذاتية، بل ومشككة في نوايا القيادة الكردية تجاه الدولة السورية.
في المقابل، بدا خطاب مظلوم عبدي هادئاً، واقعياً، خالياً من الشعارات. تحدّث عن الشراكة، عن أهمية الحوار، وعن أن المركزية التي دمّرت سوريا لا يمكن أن تُعاد صياغتها بحلة جديدة. لم يتوسل الاعتراف، ولم يطلب استثناء، بل طالب بحق سياسي في وطن دفع فيه الكرد أثماناً باهظة.
وزير الخارجية التركي، الذي حمل ملف ما سماه “الممر الإرهابي” إلى دمشق، لم يأتِ بجديد. فتركيا ترى في كل مشروع كردي تهديداً لحدودها، حتى ولو كان هذا المشروع داخل أراضي دولة أخرى. ليست القضية في سوريا، ولا في وحدة ترابها كما تدّعي أنقرة، بل في هاجس قديم عمره مئة عام، اسمه “الوجود الكردي”.
وفي دمشق، حيث يُعاد كتابة مستقبل البلاد، تطرح الإدارة الذاتية مشروعها بوضوح لا فدرالية إثنية، ولا حكم ذاتي مغلق، بل لا مركزية سياسية تعترف بالتعدد، وتبني الدولة على قاعدة المواطنة، لا الطوائف أو القوميات. وهو طرح بات يجد صداه لدى قوى سياسية سورية مختلفة، تدرك أن العودة إلى ما قبل 2011 لم تعد ممكنة.
مشكلة أنقرة ليست في قسد، بل في نجاح التجربة. أن ترى مناطق سورية آمنة ومستقرة، تُدار بمؤسسات محلية، وبعلاقات دولية متزنة، ودون تبعية للخارج، فهذا ما لا تطيقه السياسة التركية التي اعتادت الاستثمار في الفوضى، والصيد في الماء العكر.
ومن يدقق في المواقف، يُدرك أن الكرد لم يطرحوا يوماً مشروع الانفصال، ولا سعوا لتقويض وحدة سوريا، بل دافعوا عن مناطق عربية كما دافعوا عن مناطقهم. قاتلوا داعش، وأداروا مؤسسات خدمية، وطرحوا نموذجاً قابلاً للنقاش، في وقت فشلت فيه معظم قوى المعارضة في تقديم بديل حقيقي.
أما الرئيس الانتقالي للسلطة السورية أحمد الشرع، فيدرك أن الحل لا يمر من بوابة الاتهامات، بل من باب التفاهم السياسي. سوريا الجديدة لا يمكن أن تُبنى بذات أدوات الماضي. وإن كان للجيش مكان، فللديمقراطية مكان أيضاً. وإن كانت هناك حكومة، فيجب أن تكون لكل السوريين، لا لفئة واحدة.
لكن تركيا لا تريد سوريا هكذا، لا تريد لا مركزية ولا ديمقراطية. تريد حدوداً بلا كرد، ونفوذاً بلا شريك، وسلطة موالية في دمشق تقطع الطريق على أي مشروع يعترف بوجود الآخر.
في النهاية، تتقاطع خطابات الاتهام مع زيارات المسؤولين، لكن تبقى الحقيقة واحدة الكرد يريدون سوريا يتساوى فيها الجميع، وتركيا تريد سوريا لا مكان فيها للكرد.
وما بين الإرادتين، تظل دمشق أمام خيارين إما أن تُعيد إنتاج ذاتها القديمة، أو أن تنفتح على مستقبل لم يعد بالإمكان تجاهله.