تقارير

تغييب للحقائق في تقرير لجنة التحقيق حول أحداث الساحل السوري


بعد طول انتظار وترقب؛ أصدرت ما تسمى “لجنة التحقيق” في المجازر التي ارتكبتها عدة أطراف مسلحة في الساحل السوري، اليوم، الثلاثاء، تقريرها، أعلنت فيها تفاصيل عملها، وذكرت أن بعض حملات التفتيش من قبل قوات الأمن “شابتها انتهاكات”، إلا أنها لم تحدد طبيعتها ونوعيتها.
وكانت اللجنة قد تشكلت من قبل الحكومة السورية المؤقتة برئاسة “جمعة العنزي”، فيما كان المدعو “ياسر الفرحان” المتحدث باسمها، وبإشراف مباشر من الرئيس السوري “أحمد الشرع”. و”الفرحان” هو أحد أعضاء تنظيم الإخوان المسلمين، وتدور شكوك عديدة حول نزاهته في العمل ضمن اللجنة، ويعتقد العديد من الحقوقيين أن تركيا هي من زجَّت باسم “الفرحان” في تشكيلة اللجنة.
رغم السردية الممجوجة التي عرضها “الفرحان”، إلى أنها لم تخفِ توجهات اللجنة وعملها، حيث يستنتج المرء من خلالها، أن اللجنة شُكِّلت للتستر على الجرائم التي ارتكبتها الفصائل والقوات التابعة للحكومة المؤقتة، وليس لكشف الحقائق واعتقال مرتكبي تلك المجازر الجماعية وعرضهم أمام المحاكم، حيث العدالة إلى الآن غائبة في سوريا، ولا يتوقع أحد أن تعتقل الجهات الأمنية التابعة للحكومة الحالية أياً من المتورطين في تلك الجرائم، التي ترقى إلى حجم الجرائم ضد الإنسانية.
الأرقام التي ذكرتها اللجنة في تقريرها، لا تشكل إلا نسبة ضئيلة جداً من حجم الجرائم المرتكبة في الساحل السوري، وهي تتعارض كلياً مع الأعداد التي كشفتها عدة جهات حقوقية سورية ودولية في الخارج. ففي حين أن أعداد الضحايا تتجاوز عشرات الآلاف، ذكر التقرير مقتل فقط /1469/ شخصاً، بينهم /90/ امرأة، ولم يتطرق التقرير إلى أعداد الأطفال ضحايا القتل على الهوية، فقد قتلوا فقط لأنهم “علويون”. ووضعت وزر معظم عمليات القتل على ما أطلقت عليه اسم “فلول النظام السابق”، رغم أنها – أي فلول النظام – ليست بريئة منها، إلا أن التقارير الموثقة التي نشرتها معظم الجهات الحقوقية، أكدت ضلوع أفراد الفصائل التابعة للحكومة السورية في عمليات التصفية والتنكيل بجثامين الضحايا، وحتى منعت دفنهم، حيث ظلت لأيام دون السماح لذويه المتبقين على قيد الحياة بدفنهم، وما أدل على ذلك صورة الأم التي ظلت تحرس جثامين أربعة من أولادها قتلوا على أيدي تلك الجماعات المتطرفة. فيما عمدت تلك الأطراف إلى دفنهم فيما بعد في مقابر جماعية، بشكل مهين حتى للكرامة الإنسانية، من خلال حفر حفرة ورمي الجثامين فيها وردمها. ورغم أن اللجنة تطرقت إلى تلك المقابر، إلى أن مقاربتها كانت مواربة، ولم تكشف عن تفاصيلها وعن أعداد الضحايا الذين دفنوا فيها وهوياتهم، ما يشير إلى أن التقرير بعيد عن النزاهة ولا يُعتدُّ به، وهو موضع شكوك كثيرة من قبل المنظمات والمؤسسات الحقوقية والإنسانية الدولية.
كذلك تجاهلت اللجنة بشكل متعمد أعداد النساء اللواتي تم اختطافهن وسبيهن من قبل الفصائل الجهادية التابعة للحكومة السورية، حيث هناك أدلة ووثائق على نقلهن إلى عدة أماكن في سوريا، وخاصة إدلب، وبيعهن في سوق السبايا (سوق النخاسة)، ولم يعلق التقرير على المقاطع المصورة التي ظهرت في الفترة الماضية، والتي تثبت تورط أشخاص من الفصائل التابعة للحكومة في اختطاف النساء، ومن ثم الادعاء بأنها ذهبت طوعاً، في حين تؤكد شهادات أهالي النسوة المختطفات عن اختطاف بناتهن إما في الطريق إلى الجامعة أو المدرسة، أو في محطات النقل، وأنها أجبرت تحت التهديد للإدلاء بإفادات مغايرة ومتناقضة مع الواقع، ولم تكلف اللجنة نفسها عناء التحدث إلى بعض أهالي المختطفات وأخذ شهاداتهم، ولتكشف الحقيقة التي طالما سعت جهات موالية للحكومة وهي نفسها أيضاً للتستر عليها وطيَّها، وكأن شيئاً لم يكن، لأنها تدرك يقيناً أنها ستدخل في دائرة الاتهام، لأنها هي من فتحت المجال لتلك المجاميع الإرهابية المتطرفة لارتكاب المجازر المروّعة في الساحل السوري.
ولم تتناسى اللجنة ذكر مقتل عناصر قوات الأمن، وذكرت مقتل /248/ عنصراً منهم، مدعية أنهم قتلوا بهجمات “شنتها فلول النظام السابق”، لتعرض سردية غير مقنعة بأن “فلول الأسد حاولت سلخ الساحل عن الدولة وهويتها” وأنها حصلت على “أسماء 265 من المتورطين المفترضين من الفلول”، ولتترك الباب موارباً لها لتبرير شن عملياتها ضد الأهالي في المنطقة، دون أي حسيب أو رقيب.
وحول هجمات فلول النظام السابق، أشارت إلى أنه “في 6 مارس 2025 نفذت عناصر الفلول هجمات على نقاط الجيش والأمن العام، الفلول حاصرت المؤسسات الحكومية بهدف فصل الساحل عن الدولة السورية”. ولم تأتِ على ذكر الهجمات الشاملة التي شنتها المجاميع التابعة لهم على المناطق السكنية، وقتل الآلاف من المدنيين، رغم علمها أن لا علاقة لها بفلول النظام.
ولم تفوت اللجنة محاولة تلميع صور “القوات الحكومية”، عبر القول “القوات الحكومية حاولت في 7 مارس/ آذار الحدَّ من الفوضى”، رغم قناعة الجميع أن هي من خلقت الفوضى وكانت ضالعة في تلك الجرائم بشكل مباشر، وبتوجيهات من قياداتها العليا، حسب تأكيدات منظمات حقوقية دولية.
وعن سبب تأخر تقريرها، عللته بالقول “أنهينا عملنا في الوقت المحدد وتم تسليم التقرير في المدة المحددة، إلا أن الأحداث في الجنوب كانت سبباً في تأخير الإعلان عن نتائج التحقيق”. رغم أن الكشف عنها جاء بعد ضغوطات مارسته عليها منظمات حقوقية دولية، وعلى رأسها منظمة العفو الدولية “أمنيسيتي” من خلال تقرير نشرته قبل فترة، وكذلك مارست الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي أيضاً ضغوطات عليها، فيما أحداث السويداء جاءت لتزيد من حجم تلك الجرائم والفظائع المرتكبة في أكثر من مكان في سوريا، وليس كما تدعيه اللجنة في بيانها.
وفيما حددت اللجنة المناطق التي عملت فيها، عبر القول “زارت اللجنة 33 موقعاً، وعاينت المقابر خلال تحقيقاتها”، إلا أنها لا تشكل إلا تغطية صوريّة للمناطق التي ارتكبت فيها الجرائم والانتهاكات، ما يؤكد أن عملها كان مجتزءاً، وبما يمكّنها من إسكات الرأي العام الداخلي والعالمي.
وكي تسبغ اللجنة الشرعية على عملها وتوهم الرأي العام بنزاهتها، تطرقت إلى إطلاق بعض مرتكبي الجرائم عبارات عنصرية وطائفية، وذكرت اللجنة في تقريرها “بعض الشهود أكدوا تعرضهم لعبارات عنصرية وطائفية، وتوصلنا لأسماء نحو 300 من المتهمين، وحددنا أفراداً وجماعات ترتبط ببعض الجماعات العسكرية يشتبه بارتكابهم انتهاكات”، وكأنها لم تصل إلى حد اليقين في إطلاق تلك الشعارات والعبارات الطائفية، التي كانت تدعو لإبادة العلويين، وسبي نسائهم والسيطرة على أملاكهم ومنازلهم واعتبارها “غنائم”.
وحاولت اللجنة في نهاية تقريرها أن تشرعن تدخل القوات التابعة لها تحت مزاعم الشرعية، لتشير “إلى أن سيطرة الدولة في هذه الفترة كانت جزئية أو منعدمة”، وكأن الدولة الآن ضبطت سلوك عناصرها، ولم تعد هناك انتهاكات على الأراضي السورية، ما يؤكد أن التقرير منحاز ومسيس من أوله إلى آخره، ويراد منه توظيفه في توطيد أركان النظام، وتلميع صورته التي شوهتها دماء الضحايا في كل مكان.
التقارير المفصلة والمدعمة بالشواهد والأدلة والتواريخ والمقاطع المصورة، التي وضعتها عدة منظمات ومؤسسات حقوقية أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، تدحض تقرير هذه اللجنة، ولا قيمة له أمام هول الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها تلك الفصائل التابعة لها وللاحتلال التركي في الساحل السوري وغيرها من المناطق السورية، وربما السويداء كشفت الغطاء الذي طالما كانت تتستر به الحكومة من خلال إشراك عناصر تنظيم “داعش” الإرهابي في مجازر السويداء، كما أكدتها المقاطع التي صورتها هي نفسها، وكأنها تتحدى الإرادة السورية والدولية، وتعتبر سوريا جغرافيا مستباحة يحق لها أن تفعل ما تشاء. إلا أن السويداء قلبت المعادلة، وربما القادم لا يسر تلك الأطراف التي أقحمت نفسها في مواجهة إرادة الشعب السوري في العيش في سلام ووئام، وفتحت الباب على مصراعيه أمام نشوب حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى