مقالات رأي

هل تسعى تركيا فعلاً لإعادة التطبيع مع الحكومة السورية، أم ما تروج له لا يتعدى حدود التنسيق؟

وليد جولي

لا شك أن فكرة إمكانية إعادة ترتيب العلاقة بين تركيا والحكومة السورية بدأت من الجانب التركي، وهذا يعني أن المبادر لديه تصور مسبق لما ستؤول إليه النتائج، أو لديه خطة سياسية معينة يهدف إلى تحقيقها، والسؤال الأكثر أهمية في هذه المسألة، هو عدم أعطاء حكومة دمشق أهمية كبيرة للمبادرة التركية، هذا أيضاَ يعني أن الأخيرة بحكم المشتركات في الموروث الإيدولوجي والتجربة السياسية، تدرك مدى عدم جدية الطرح التركي، وأين تكمن خفاياه السياسية، لذلك نجدها وضعت أولويات لتحقيق التطبيع من جديد، في مقدمتها إنهاء حالة الاحتلال التركي للأراضي السورية، وهي ( حكَومة دمشق) مدركة تماماً لصعوبة تحقيق ذلك في المنظور القريب، لعدة معطيات تاريخية ومرحلية، ولعل نموذج لواء اسكندرون من أكثر النماذج تعبيراً للنوايا التركية من المنظور التاريخي القريب، فضلاً عن عمليات التغيير الديمغرافي الجارية على قدم وساق في الأراضي السورية الخاضعة لها، والمرفقة بالنشاطات السياسية والثقافية والإدارية والاقتصادية والتعليمية التي تدل بشكل لا يقبل الجدل حول النية التركية بضم تلك الأراضي لجغرافيتها السياسية.

إذا فما الهدف من المبادرة التركية؟

هناك أجماع تام حول أزمة الداخل التركي من الناحيتين السياسة والاقتصادية، وبدون شك هذه الأزمة لها تأثيرها المباشر على نتائج الانتخابات الرئاسية المزمع إجرائها في العام المقبل ٢٠٢٣ والتي تنظر الأوساط السياسية التركية إليها على أنها ستشكل مرحلة مفصلية تاريخية بالنسبة لنظام الجمهورية التركية، من حيث المكانة الإقليمية والدولية، وتحديد شكل علاقاتها وسياساتها الخارجية والداخلية بشكل مختلف عن العهود والمواثيق السابقة مع محيطها الدولي والإقليمي، سيما تلك المتعلقة بمسائل الطاقة والحدود البرية والبحرية والمضائق، ولكلٍ منها ملفات مرتبطة باتفاقية لوزان ١٩٢٣ التي ينظر إليها القادة الأتراك على أنها كانت مجحفة بحق الدولة التركية، وبالتالي ضرورة إعادة النظر في بعض بنودها، وأن من سيحقق ذلك يجب أن يمتلك كاريزما ربما تكون أكثر تأثيراً من مصطفى كمال، لذلك نجد الخطاب السياسي التركي بشقيه الحكومي والمعارض متجه بشكل مكثف حول رمزية العام المقبل ٢٠٢٣ ومن سيقوم بهذه المهمة.
يعتبر الشمال السوري بشقيه الشرقي والغربي من أحدى الملفات الموضعة في برنامج ما بعد ال ٢٠٢٣ بموجب “الميثاق المللي” الذي يعتبر كامل مدن الشمال السوري بدء من حلب والرقة ودير الزور وصولاً بالموصل وكركوك أراضي تركية سلبت منها بضغوطات دولية، وهي من أحدى مظالم اتفاقية لوزان، وبالتالي فجميع النشاطات التركية سواء العسكرية أو السياسية في شمال سوريا غرباً وشرقاً، وكردستان العراق ليس إلا تمهيد لضمها إلى الخارطة السياسية التركية، وأي سيناريوهات أخرى تطرح بخلاف ذلك لن تكون إلا من متظور سياسي متفق مع النية التركية، وأن الهدف الأساسي من طرح النظام التركي لمبادرة التصالح مع الحكومة السورية لم تكن إلا لكسب الوقت وسحب البساط من المعارضة التي حسمت أمرها بشأن اللاجئين السوريين وامتعاظ المزاج الشعبي المتزايد من مسألة اللاجئين، إلى جانب كسب أكثر مدة زمنية للأبقاء على موقفها الضبابي من الأزمة الأوربية الروسية، وبالتالي الاستفادة أكثر من التنسيق مع الروس في مسار أستانا الذي أظهر بشكلٍ جلي حالة التنسيق المستمر بين تركيا والحكومة السورية ولو كانت بوساطة روسية أو إيرانية. وأن ما صرح به الرئيس التركي مؤخراِ حول إمكانية إعادة النظر في العلاقة مع الحكومة السورية بعد انتخابات ٢٠٢٣، ليس إلا إظهار لحقيقة تم دفنها لبضعة شهور، بهدف احتواء التذمر الشعبي التركي تجاه قضية اللاجئين وكسب المزيد من الوقت لمناورات سياسية مقبلة.

لذلك هناك فرق كبير بين التطبيع والتنسيق في سياقات العلاقات الدولية، فالتطبيع يسبقه سلسلة بروتوكولات سياسية ودوبلوماسية موسعة، تكون رسمية وعلنية، يتم فيها اتفاق شبه شامل على القضايا السياسية العالقة، يتم الاعلان فيه عن الموقف السياسي الرسمي للدول المعنية، ومن ثم يتم الاعلان عن خطط سياسية واقتصادية وعسكرية تحدد شكل وحجم العلاقة بينها، إلى جانب التعاون في مجالات عدة تخص مصلحة الطرفين أو الأطراف إذا كانت متعددة..
أما التنسيق، فمن الممكن إجراء اتصالات في مجالات محددة غالباً تكون على المستوى الاستخباراتي والمعلوماتي تتركز على قضايا مشتركة دون الافصاح عنها بشكل واضح، تكون فيه الرؤية موحدة، أو يكون فيها منافع تبادلية تخص كلا البلدين أو مجموعة من البلدان، ومن الواضح أن المسألة الكردية هي في مقدمة المشتركات التي من الممكن أن يتم التنسيق عليها دون الحاجة إلى التطبيع الشامل، وفي خضم التناقضات القائمة بينها، وهذا لا يخفى على أحد
لذلك من الصعب جداً الحديث عن أي شكل من أشكال التطبيع بين النظامين التركي والسوري على الأقل من المنظور القريب، ما لم يتم تغيير جذري في المفاهيم السياسية والفكرية السائدة في كلا البلدين، وترسيخ سياسة الاحترام المتبادل بعيدة عن الاطماع السياسية التوسعية والمبنية على أسس الاعتراف الدستوري بالمكونات الأساسية المهمشة، خاصة المسألة الكردية التي تعد المادة الأساسية لحالة التنسيق الأمني السائد بنهما بالإضافة لإيران.

ADARPRESS #

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى