مقالات رأي

دور خفي وظاهر لواشنطن في التوتر اليوناني التركي

ليست الأزمة المتصاعدة بين أنقرة وأثينا بعيدة عن أجواء التوتر التي أشاعتها الحرب الروسية على أوكرانيا. وقد سعت أنقرة إلى أداء دور إيجابي بتنظيمها أول مفاوضات روسية أوكرانية على أراضيها، وهي تسعى، في هذه الآونة، إلى ضمان إمدادات القمح عبر البحر الأسود من روسيا. وعلى الرغم مما قد يثيره هذا المسعى من جدل، وبخاصة إذا ما جرت المساعي بمعزل عن أوكرانيا، إلا أن جهود أنقرة ترتدي أهمية كبيرة، كونها تشكّل مبادرةً لتفادي أزمة غذائية عالمية خطيرة، غير أنه كانت للحرب المستمرّة تداعيات أخرى، فمع ما أشاعته الحرب من تقديرات متشائمة بشأن الأمن والسلم في أوروبا، فقد تقدّمت السويد وفنلندا بطلبات انضمام إلى حلف الناتو، وهو ما لقي، بطبيعة الحال، تنديدا من موسكو، إلا أن الأمر الذي لا يخلو من مفاجأة تمثل بالاعتراض التركي الشديد على هذا الطلب، إذ بدا هذا الاعتراض وكأنه يخدم الجانب الروسي في هذا الظرف. لتركيا أسبابها الخاصة في هذا الاعتراض، والتي تتعلق أساسا بأنشطة حزب العمال الكردستاني في البلدين، وما يلقاه، حسب أنقرة، من رعاية برلمانية وإعلامية في البلدين اللذين أبديا الاستعداد للتفاهم مع أنقرة في شأن هذه المسألة، غير أن الاعتراض التركي حافظ على حدّته..

لدى تركيا واليونان من المشكلات الداخلية (الاقتصادية) ما يغنيهما عن الانسياق وراء مواجهة عسكرية مدمّرة

وفي هذه الأجواء، نشبت الأزمة الجديدة بين أنقرة وأثينا، مع إلقاء رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، وفي أجواء احتفالية به، خطابا أمام الكونغرس في مايو/ أيار الماضي، دعا فيه إلى عدم تزويد تركيا بطائرات إف 16. وهذه مسألة حساسة بالنسبة لأنقرة الطامحة إلى تعظيم ثغراتها الدفاعية في المجال الجوي، بما في ذلك السعي إلى التزوّد بالمقاتلة إف 35 لا إف 16 فقط. وبموازة ذلك، تكشف أنقرة أن أثينا تقوم بعسكرة الجزر المتناثرة في بحر إيجه، وليس بعيدا عن البرّ التركي، من غير أن تُبدي واشنطن الاهتمام الكافي بهذا التطوّر المتعلق ببلدين جارين وعضوين في “الناتو”، بل يضيف المسؤولون الأتراك أن الولايات المتحدة أقامت نحو عشر قواعد عسكرية في اليونان، وأبرمت اتفاق تعاون دفاعي مع أثينا التي يذكُر المسؤولون فيها أن مقاتلات تركية عبرت المجال الجوي لبلادهم عشرات المرّات في الآونة الأخيرة. وفي هذه الظروف، ألغى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “المجلس الاستراتيجي” بين البلدين، وأعلن أنه يرفض اللقاء برئيس الوزراء اليوناني في أية مناسبة. وإلى الولايات المتحدة، فإن مسؤولين أتراكا يلحظون انحيازا أوروبيا إلى أثينا “الطفل المدلل أوروبياً”، على حد تعبيرهم، وهو ما يفسّر النبرة الخشنة لأثينا في مخاطبة أنقرة، وذلك بالاستقواء بالآخرين، إذ يميل ميزان القوى على جميع الصعد لصالح تركيا، باستثناء حاجتها لتحديث أسطولها الجوي، غير أن التخوّف من النوايا الأميركية يبقى هو الهاجس الأساس لدى أنقرة كما تدلّ تصريحات أردوغان. ولافتٌ أن اللهجة اليونانية كانت أكثر حدّةّ في التعبير عن الأزمة أخيرا، حتى إن جنرالاً يونانياً متقاعداً هدّد “بقصف إسطنبول”، من غير أن يلقى تصريحه الحربي اعتراضا رسميا، وبخاصة أن القائل متقاعدٌ لا يملك سلطة تقريرية.

وإذ تنشب الأزمة أخيرا، فإنها تتراكم مع مشكلاتٍ قديمة، مثل الخلاف على الوضع في قبرص منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، حيث باتت تركيا تطالب بـ”حل الدولتين” في شمال الجزيرة وجنوبها. وكذلك مشكلة تحديد الحدود البحرية. وتضيف لها أنقرة مسألة الأقلية التركية في اليونان. فضلا عن الخلاف بشأن اتفاقية لوزان (سميت باسم المدينة السويسرية، ونظمتها بريطانيا وفرنسا وتركيا في العام 1923 بعد الحرب العالمية الأولى، وفي أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية)، حيث تطالب أنقرة بإعادة النظر فيها، في حين تراها أثينا أنها غير قابلة للمراجعة، فضلا عن تحفظات أثينا على تحويل متحف أيا صوفيا في إسطنبول إلى مسجد، وإلى درجةٍ يتساءل المرء فيها عن أوجه الاتفاق بين البلدين إذا وجدت، وحول نجاعة حلف الناتو في وضع آلية لحل الخلافات بين أعضائه، علما أن التبادل الدبلوماسي على مستوى سفير قائم بينها مع ثلاثٍ قنصليات في ثلاث مدن لكل منهما.

يلقى العداء بين تركيا واليونان دعماً شعبياً واسعاً على الجانبين، فثمّة حزازاتٌ تاريخيةٌ وفوارق ثقافية تغذّيانه

وليس هناك، على الرغم من النفور الظاهر والتصريحات الملتهبة، ما يُنذر بمواجهة، فلدى البلدين من المشكلات الداخلية (الاقتصادية) ما يغنيهما عن الانسياق وراء مواجهة عسكرية مدمّرة. والغرب، أوروبا وأميركا، لن يسمحا بتصعيد عسكري، يضاف إلى مخاطر الحرب الروسية على أوكرانيا، غير أنه يبقى أن العداء المزمن بينهما يلقى دعما شعبيا واسعا على الجانبين، فثمّة حزازاتٌ تاريخيةٌ وفوارق ثقافية تغذّيانه. ولم تفلح عشرات اللقاءات بين الجانبين على مدى العقدين الأخيرين في إطفاء جذوة العداء الكامنة، والتي تعود إلى أكثر من قرن، وحيث جرى تبادل سكاني، وفق معاهدة لوزان، ترك خلفه مراراتٍ تغذّيها مخيلة “تاريخية” بأن اليونان كانت تقع تحت سلطة الدولة العثمانية، ورؤى، في الجانب اليوناني، ترى أن تركيا كانت معقلا لبيزنطية القديمة منذ ما قبل الميلاد. وهو ما عبّر عن بعض منه رئيس الوزراء اليوناني في خطابه أمام الكونغرس، حين تحدث عن “القيم الهلّينية في مواجهة الاستبداد الشرقي”، والتذكير بجوامع تضم اليونان إلى الغرب، فيما تبدو تركيا، وهذا ما لم يقله صراحة المسؤول اليوناني، مرشّحة قديما وحديثا للعب دور استبدادي شرقي.

والظاهر أن البلدين، رغم محطّاتٍ تقارب عديدة بينهما على مدى عقود، لم يفلحا في صياغة مصالحة تاريخية تقطع مع الماضي ومراراته، وتتطلع إلى المستقبل، وتهيئ لمشاريع تعاون مشتركة، وتعظم المصالح المتبادلة، كما وقع بين ألمانيا وفرنسا عقب هزيمة النازية، أو بعد الاحتلال البريطاني للولايات المتحدة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولعل هذه مسؤولية النخب في البلدين التي لم تنجح في التجسير بين اليونانيين والأتراك. كما أن غياب الاستقرار، وبالأحرى تطوّر النظام السياسي في البلدين، خلال فترات طويلة سابقة، قد أسهم في التباعد بينهما، إذ يسهل توظيف التهديد الخارجي للتمويه على مشكلاتٍ داخلية. ومع ذلك، يصعُب تصوّر إرساء حلول، أو حتى نزع فتيل التوتر بين البلدين الجارين، بغير مساهماتٍ من الخارج، ولا بد أن تجد أنقرة، وبدون التخلي عن مطالبها، سبيلا للتفاهم مع التكتل الأوروبي ومع هلسنكي واستوكهولم حول مسألة انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، كما أن الولايات المتحدة لا بد أن ترى أن ليس في مصلحتها توجيه ضغوط خفية وظاهرة على أنقرة، والوقوف موقف المتفرّج إزاء مظاهر اشتداد التوتر بين عضوين في “الناتو”، فأميركا المتسبّبة تاريخيا بمشكلاتٍ عميقةٍ وخطيرةٍ لبلدان عديدة، ما زالت الطرف الدولي المؤهل للإسهام في حل المشكلات الإقليمية، وتلك من مفارقات الزمان.

ADARPRESS #

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى