مانشيتمقالات رأي

حرب الذئاب المفترسة في سوريا

محسن عوض الله

لم تكن الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران مجرد معركة عابرة من تلك التي اعتاد الشرق الأوسط أن يشهدها من حين إلى آخر؛ فلم تقتصر على طائرات مسيّرة وصواريخ بعيدة المدى، بل شكّلت مشهدًا مختلفًا يعيد ترتيب الأحجار الثقيلة على رقعة السياسة الإقليمية.

وبينما انشغلت العيون بصواريخ تتطاير في سماء طهران، كان شرر آخر يتطاير بصمت نحو دمشق، حلب، والقامشلي… شرر اسمه تركيا وإسرائيل.

قبل أسابيع قليلة فقط، أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان موقفًا غير مسبوق حين قال: “لا توجد مشكلة فلسطينية أو لبنانية أو إيرانية… هناك فقط مشكلة إسرائيلية”. جملة اختصرت سنوات من الدبلوماسية المتحفظة، ونقلت العلاقة بين أنقرة وتل أبيب من مربع البرود السياسي إلى العداء المعلن. فتركيا، التي لطالما قدمت نفسها كمدافع عن قضايا الأمة، لم تعد تخفي طموحها لقيادة المنطقة على طريقتها، وهو الطموح ذاته الذي تتبناه إسرائيل.

في هذا المشهد المعقد، تبدو العلاقة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أشبه بمواجهة بين رجلين مختلفين في كل شيء، لكنهما يتفقان على أن المنطقة لا تتسع لقائدين. كل طرف يرى الآخر عائقًا أمام مشروعه، ويخطط لتحجيمه وإزاحته.

الخطير أن هذا الصراع لم يعد مجرد تلاسن سياسي أو تراشق إعلامي، ففي نيسان / أبريل الماضي، تعرّض موقع يُعتقد أنه قاعدة تركية داخل سوريا لقصف جوي نُسِبَ إلى إسرائيل. ورغم صمت الطرفين، إلا أن الرسالة كانت بالغة الوضوح: ساحة الاشتباك لم تعد محتملة، بل أصبحت واقعة. وسوريا، التي لم تتعافَ بعد من ويلات الحرب، تبدو مرشحة من جديد لتكون أول من يدفع الثمن.

الأخطر أن إسرائيل، التي اعتادت تصنيف إيران كعدوها الأول، بدأت وفق تقارير رسمية من لجنة “ناغل” الإسرائيلية تنظر إلى تركيا بوصفها التهديد الاستراتيجي الأهم. أنقرة تحتل اليوم موقعًا متقدمًا على سلّم القلق الإسرائيلي، بفضل تمدد نفوذها في ليبيا وسوريا وشرق المتوسط، وهو ما دفع إسرائيل لإعادة ترتيب حساباتها العسكرية، ورفع موازنتها الدفاعية، استعدادًا لما تصفه بـ”تطورات غير محسوبة”.

وقد بلغ التصعيد بين الطرفين ذروته حين هدّد وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، يسرائيل كاتس، الرئيس أردوغان بمصير يشبه مصير صدام حسين، في واحدة من أكثر العبارات عدائية التي صدرت عن مسؤول إسرائيلي تجاه تركيا منذ عقود. وفي المقابل، لم تتأخر أنقرة في الرد، إذ اتهم السياسي القومي المتشدد دولت بهجلي، أحد أبرز حلفاء أردوغان، إسرائيل بمحاولة “محاصرة الأناضول”، وهو خطاب يكشف عمق التحول الاستراتيجي في نظرة تركيا لتل أبيب.

الضربات الإسرائيلية ضد قادة الحرس الثوري الإيراني لم تكن موجهة لطهران وحدها، بل كانت رسالة تحذير مزدوجة لأنقرة أيضًا، مفادها أن اليد الإسرائيلية قادرة على الوصول إلى العمق، وأن التفوق الجوي ما زال بيد تل أبيب. وقد فهمت أنقرة الرسالة، وبدأت تتحرك، ليس فقط بتعزيز وجودها العسكري في الشمال السوري، بل بتطوير قدراتها السيبرانية والجوية، ورفع حالة الجاهزية على حدود تماسها.

لكن، وكما هو معتاد في هذا الشرق المثقل بالتدخلات، فإن الخاسر الأكبر في كل هذه المعادلات سيكون الشعب السوري. شعب لم يشارك في هذه اللعبة، لكنه يدفع دومًا الثمن.

وكأنما قد كُتب عليه أن يكون وقود كل حريق إقليمي، من الثورة، إلى الحرب، إلى التقسيم، والآن إلى الصراع التركي الإسرائيلي.

السوريون الذين هُجِّروا وقُصِفوا واعتقِلوا، يعودون اليوم لموقع المتفرج الذي لا يُستشار، ولا يُحمى، ولا يُعفى من الفاتورة.

إن اندلاع أي مواجهة مفتوحة بين تركيا وإسرائيل لن يبقى في حدود التصريحات أو الاستعراضات العسكرية. إنها حرب ناعمة قد تتحوّل إلى جحيم، وسوريا مرشحة مرة أخرى لتكون حقل النار والتجريب. فهل ما زال هناك من يتوهم أن الحلفاء موجودون فعلاً؟ وهل يصدّق أحد أن المصالح الكبرى ستمنح هذه البلاد حق الحياة من دون مقابل؟

السوريون أمام امتحان جديد، لكنه هذه المرة أكثر قسوة، إذ لا طرف في الصراع يحمل لهم الود، ولا جهة تُبقي لهم شيئًا من القرار.

في هذا المشهد، لم يعد السؤال عن مستقبل الصراع، بل عن قدرة السوريين على النجاة، وعن وعيهم بخطورة الارتهان لمحاور لا ترى فيهم سوى أوراق تفاوض أو أوراق ضغط.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى