مانشيتمقالات رأي

الشرق الأوسط الجديد في مقارباتٍ ثلاث

كمال حسين

بما أن كل المؤشرات صارت تنطق بحقيقة واحدة مفادها إننا نعيش في المنطقة اليوم في ظل ظروف وأوقات تعد بظروف ما قبل الانعطاف الكبير، أو نعيش عشية ولادة الشرق الأوسط الجديد، هذا المولود الذي سيحمل معه مناخاً جيوسياسياً مختلفاً عن ذاك الذي عرفته المنطقة خلال المائة عام الأخيرة، وفي حقبة ما بعد الحرب الأولى؛ الحقبة التي شهدت تشكيل كيانات ودول على قاعدة تفاهمات دولية ضمن ما سمي باتفاقية سايكس بيكو، الاتفاقية التي فرضتها حينها الدول الفائزة بالحرب على خريطة العالم، بموجبها تقاسمت الدول الكبرى النفوذ على تركة الإمبراطورية العثمانية المهزومة بالحرب.

المنعطف الذي لاحت نذره عبر محطات عديدة، كانت بدايتها مع خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع انطلاق حرب غزة في العام 2023 والتي قال فيها إنه ذاهب إلى تغيير وجه الشرق الأوسط بأكمله، هذا الإعلان الذي ترجمه على الأرض في الحروب التي تلت حرب غزة، والتي مازالت تتسع انتشاراً، ثم جاءت اليوم تصريحات المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا توماس باراك، والتي تقول “بأن التقسيمات السياسية على أساس سايكس بيكو انتهت ولم تعد صالحة”.

فإلى ذلك، وقبل إجراء أية مقاربة موضوعية ناقدة حول أبعاد هذا الحدث الكبير؛ يجب الإقرار بأن مصطلح الشرق الأوسط الجديد يعد مصطلحاً مرزولاً، ويعكس الكثير من المخاوف بنظر العديد من النخب السياسية والثقافية الدارجة في سوريا وفي المنطقة العربية، ومشاعر التوجس تبدو أمراً مُسلماً به؛ لأنها قد أتت عن عوامل ثلاث، الأول، إن مشروع الشرق الأوسط الجديد قد جرى ربطه في الوعي الجمعي العربي، ومنذ انطلاق الحديث عنه بعيد حرب الخليج الثانية؛ بإسرائيل ودول الغرب الرأسمالي.

والثاني، إن الوعي السياسي العربي حول مفاهيم الدولة والأمة والوطن قد تشكل في ظل قيم الدولة القومية والعقائدية، التي قامت تحت سقف سايكس بيكو نفسها، والذي بدوره قد جاء منذ انفكاكه عن الإمبراطورية العثمانية مطلع القرن الماضي، متأثراً بالنزعة القومية الديمقراطية البرجوازية، وقيم الثورة الفرنسية.

أما الثالث، وعلى الرغم من إشهار ثورة تشرين الأول/أكتوبر في الاتحاد السوفيتي بقيادة البلاشفة؛ موقفاً معادياً للقيم القومية باعتبارها بضاعة ثقافية رأسمالية لا تتفق ومصالح البروليتاريا، وقد ناصبت اتفاقية سايكس بيكو العِداء عبر إفشاء بنودها قبل انطلاقتها، إلا أنها والقيم الماركسية بعامة قد ألهمت الكثير من الحركات العمالية والشيوعية إلى الانخراط في النضالات القومية تحت مسمى لينيني، والذي كان يقول  بأن حركات التحرر الوطني جزء لا يتجزأ مع الأحزاب الشيوعية في البلدان الرأسمالية وبلدان المنظومة الإشتراكية، جزء لا يتجزأ من قوى حركة التحرر العالمية، هذه المقدمة قد جعلت الكثير من المثقفين الماركسيين يتوجهون إلى مواقع دفاعية أكثر صلابة أحياناً من موقف القوميين العرب في الدفاع عن خريطة الدولة التي جاءت بها سايكس بيكو.

لكن وبالعودة إلى مناخات النصف الأول من القرن الماضي، وإلى الظروف التي تلت الحقبة العثمانية، وعلى الرغم من أنه قد شهد حربين عالميتين، قد انسحبت تأثيراتهما بالسلب على المنطقة العربية، كما شهد نشوء دولة إسرائيل، رغم كل ذلك، ومع الأخذ بالحسبان أن الكيانات الدولتية التي أفرزتها سايكس بيكو قد جزأت الشعوب العربية إلى كيانات متعددة، وحرمت شعوباً أخرى في المنطقة من حق الانضواء في دولة واحدة، فيجب الاعتراف أن الدولة المعتلة التي وُلِدَتْ تحت سقف سايكس بيكو، وفي ظل وصاية الاستعمار الغربي الأوروبي؛ كانت أفضل وقعاً، وبما لإ يقاس على مصالح الشعوب والمجتمعات عنها في الفترة العثمانية لناحية الحريات والعدالة والإحساس بروح المواطنة والتحضر، مع الإشارة عند هذه النقطة إلى أن هناك الكثيرين ممن يتبجحون اليوم بأن الدولة العثمانية كانت عامل توحيد للشعوب التي انضوت تحت سيطرتها، متناسين حقيقة أن قوة استمرارها قد قامت على أرضية العبث بوحدة النسج الاجتماعية، وعبر إشاعة أجواء الحقد بين المكونات، والتشجيع على المجازر، ثم اختراع وتوظيف مفاهيم الأقليات والأكثريات لإضعاف وحدة المجتمعات، والتمكن من دوام السيطرة.

فهذا النموذج من دولة الخلافة الدينية العثمانية شديدة المركزية والاستبداد والتسلط، والتي كانت متحكمة بمصير شعوب المنطقة لقرون عديدة، وقد كان لها في حينها مروجيها وأتباعها والمدافعين عنها، فقبل أن يأفل نجمها في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ فقد نشأت إرهاصات عديدة بشرت بانهيارها قبل وقت من سقوطها، كان من أبرزها ولادة جمعيات تضم مثقفين ورواد ليقظة الشعوب العربية وغير العربية الواقعة تحت نير الاحتلال، ورموز أمثال عبد الحميد الزهراوي، والجمعية العربية الفتاة، وسعد زغلول وغيرهم.

وهكذا يكرر التاريخ نفسه اليوم، وتظهر في إرهاصات اللحظة الحالية جهود الغيارى على الأحقاب السابقة، وتتضافر جهود مثقفين وسياسيين من أطياف متناقضة، عليها جميعها واجب التصدي لمخاطر اللحظة القادمة حيناً على أوطان ودول مشوهة أنجبتها سايكس بيكو، وحيناً آخر، الحنين إلى دولة المجازر والخلافة،

ففي كل مرة، وعند كل انعطاف كبير ينقسم البشر والدعاة إلى نسق يصطف إلى جانب القديم بحكم مصالحه وطريقة تفكيره، ونسق طليعي مع الجديد والحداثة بحكم وعيه أولاً وثوريته ثانياً، وعلى ضوء ما تتيحه لوحة المعطيات الحالية؛ يمكن القول إن قوى ثلاث تحاول الإمساك بتلابيب اللحظة القادمة، وثقافات ثلاث تتبارى لشغل العقول والاستئثار في البناء الفوقي لمجتمعات شعوب الشرق الأوسط.

الأولى، قوى الإسلام السياسي المنغمسة بإحياء الماضي، وباستدعاء نماذج إلى حكم شعوب المنطقة من أرشيف الألفية الأولى، نماذج لا تقبل إلا نفسها، ولا تتورع باستخدام كل طرق العنف والإبادة؛ للتخلص من خصومها، ويشكل النموذج القائم على حكم الدولة السورية حالياً أحد الأمثلة الحية لأتباع هذه المدرسة. والثانية، المشروع الإسرائيلي الذي يقدم نفسه بمثابة الراقص الأوحد الآن على مسرح هذا الشرق الأوسط الجديد.

ووفقاً لما تعكسه مسيرة الأحداث، يظهر حتى الآن أن الإسرائيلي هو المهندس الدارس، وهو مهندس التنفيذ لهذا المشروع، كما يحتكر دور حق الناطق عن تطوراته، وهو في الطريق إلى إنجاز مهمته؛ يوظف العديد من عوامل القوة، والتي هي في جوهرها زبدة عناصر قوة الحداثة الرأسمالية في العالم، في جوانبها ومجالاتها المختلفة، وهي لا شك قوة حاسمة.

وثَمَّةَ نقطة هامة في هذا السياق تُعَدُّ من عدة الشغل التي شرعت الدوائر الإسرائيلية بزجها واستخدامها في مشروع هذا الشرق الجديد، وهي إطلاق مظلة فكرية لتوحيد المفاهيم والتشريعات الدينية، تحت مسمى التفاهات الإبراهيمية، وهي لا شك خطوة زكية قد تلقى ترحيباً من شعوب البلدان الإسلامية، سيما بعد فشل قوى الإسلام السياسي في المحافظة على نسيج المجتمع، وعلى روح الإسلام نفسه كدين عدالة وتسامح.

أما الثالثة، فهو مشروع  الأمم الديمقراطية، والذي تنهض قوات سوريا الديمقراطية بتحقيقه عبر تجذير وتعميم تجربة الإدارة الذاتية القائمة الآن على قسم مهم من الجغرافيا السورية، ورغم أن مشروع الأمة الديمقراطية لا يملك أجندات معدة لملء فراغ سياسي بعينه، على شاكلة الجغرافية الاجتماعية المتموضعة في إقليم الشرق الأوسط، كما أنها لا تملك طموحات تستدعي الانتشار والتعميم على شاكلة الأيديولوجيات الدينية أو الماركسية؛ إلا أنها تعد تنظيراً فكرياً وسياسياً لحل معضلات شعوب بلداننا، خرج من رحم الفلسفة، وجاء كخيار التاريخ؛ حيث أخفقت حتى الآن الثقافات والتنظيرات المعروفة في تقديم حلول ناجعة لقضايا مسكوت عنها منذ زمن بعيد، وتتجاوز في نطاقها حقول السياسة والاقتصاد والمجتمع، إلى حقول الجنولوجيا والبيئة والتشاركية وغيرها الكثير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى