مقالات رأي

« روسيا تُشعل الحرب.. وأمريكا تحصد ثمارها»


عبدالوهاب احمد/ ليفانت

لم تكن الحرب الروسية الأوكرانية وليدة اللحظة أو نزوة طارئة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل تراكمٌ لصراع ونزاع بين البلدين، ممتد لسنوات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نشأ نتيجة تناقضات في المصالح الاستراتيجية بين الدولتين، تحول إلى أزمة دولية بعد التدخل العسكري الروسي المباشر في الأراضي الأوكرانية.
حيث يتركز جوهر هذا الصراع حول الموقع الجيوستراتيجي الذي تتمتع بها أوكرانيا بالنسبة لروسيا، سياسياً واقتصادياً، باعتبارها الحديقة الخلفية والخاصرة التي تفصل بينها وبين معسكر القوى الغربية، وهذا ما كان يدفع موسكو على الدوام لعدم التخلي عنها، ومنعها من الانتقال إلى “الوصاية الغربية”، التي طالما اعتبرت غياب كييف عن حضنها ومحيطها الحيوي أول التصدعات في جدار أمنها القومي الاستراتيجي، وشلٌ لقوتها الإقليمية في البحر الأسود الذي يربط روسيا بثلاث قارات، هي أوروبا وآسيا وأفريقيا، وتلامس حدود عدد من الدول المطلة عليها، مثل تركيا وبلغاريا ورومانيا (الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي) إضافة إلى جورجيا وأوكرانيا اللتين تسعيان للانضمام إلى الناتو.
جاء تفجّر الصراع الروسي – الأوكراني بعد أن حسمت الأخيرة موقفها في الانضمام إلى الناتو، وهذا ما وجدت فيه روسيا تهديداً لأمنها، ووسيلةً للدول الغربية للعمل على إثارة التناقضات داخلها، وبالتالي دفعها لتقديم تنازلات في بعض الملفات الدولية لمصلحة السياسة الأميركية والغربية، فأصبحت أوكرانيا كبشاً مهدوراً للتضحية بين مصالح روسيا والغرب (أوروبا وأمريكا)، ومع دخول الحرب شهرها الثاني، لم تعد نتائجها وانعكاساتها محصورة على أوكرانيا وحدها، أو محيط روسيا الاستراتيجي، بعد أن خلفت وراءها الكثير من الخراب والدمار، وجلبت معها عقوبات شاملة على روسيا فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية وشركاؤها في مسعى لتحجيم دور روسيا وقدرتها على زعزعة الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي. إلا أنّ ردة الفعل الروسية على العقوبات الغربية من جهة، وتصعيد دول حلف الناتو وإمدادها لأوكرانيا بشتّى أنواع الدعم العسكري واللوجستي والسياسي والاقتصادي، من جهة أخرى، تتماشى مع مساعي طرفي الصراع الفعليين، روسيا والغرب، إلى هندسة العالم من جديد عبر البوابة الأوكرانية، فروسيا الطامحة لإعادة تشكيل نظام عالمي جديد بالتنسيق مع الصين، باتت تجد في نظام القطب الواحد الهشاشة وعدم الصرامة بعد أن أصابه النخر في بعض جوانبه وأطرافه، وخاصة بين الدول الأوروبية نفسها، مقابل تصاعد نفوذ وقوة روسيا العسكرية والصين الاقتصادية لتشكل أقطاباً محتملة تنافس الولاياتالمتحدة في المستقبل القريب، وأن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يثير رغبة دول أخرى بالتمدد في محيطها الإقليمي بحجة الدفاع عن أمنها القومي، مثل الصين، تايوان، تركيا، ومناطق في العراق وسوريا.
صدر عن البيت الأبيض، في الثالث من آذار عام 2021، وثيقة استراتيجية مؤقتة لإدارة الرئيس بايدن عن الأمن القومي والدفاعي للولايات المتحدة الأمريكية، سميت بـ “عقيدة بايدن”، تم التركيز فيها على تحديث حلف الناتو وتحولات الطاقة النظيفة والنظام العالمي ومنافسي الولايات المتحدة، ووجدت في كلّ من روسيا والصين، أكبر مهددين رئيسيين لها، “يعملان على احتواء تفوق واشنطن وعرقلتها في حماية مصالحها ومصالح حلفائها في العالم”.
في الأزمة الأوكرانية، يبدو أن الإدارة الأمريكية تديرها بمنتهى الدقة والدهاء، حيث أوهمت روسيا أن حدود تدخلها في هذا الصراع تتجاوز التهديدات الدبلوماسية، وأن بعض العقوبات الاقتصادية التي لن تؤثر على روسيا، شبيهة بتلك التي فرضت عليها في أزمة القرم عام ٢٠١٤، وهو ما دفع روسيا بالمغامرة وتحريك جيشها نحو الداخل الأوكراني، ثم تفاجأت بالحجم الهائل من العقوبات الشاملة والمعدات العسكرية المتطورة التي زودت بها القوات الأوكرانية من قبل الغرب، مكنّتها من الصمود حتى الآن على الرغم من الفارق الهائل في ميزان القوة العسكرية مع روسيا، ولحقت خسائر فادحة بالقوات الروسية، وهو ما دفع بالأخيرة إلى القبول بالمفاوضات.
أما الصين، جاء التركيز عليها ضمن الاستراتيحية المؤقتة للرئيس بايدن، باعتبارها خطراً حقيقياً على المصالح الأميركية، بعد أن أصبحت “أكثر ثقة بالنفس”، وهي الدولة الوحيدة القادرة على دمج قدراتها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والتقنية لتشكيل خطر على النظام العالمي. وعلى الرغم من ذلك، أبدت الوثيقة مرونة في التعامل مع بكين على قاعدة «التنافسية – التعاون – العدوانية إذا لزم الأمر». ولكن الصين، يبدو أنّها اختارت الحياد رسمياً حتى الآن في الأزمة الأوكرانية، وإن كانت من الناحية الاستراتيجية تقف في نفس الخندق مع موسكو في مواجهة المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. إلا أنها تخشى حقيقةً من أن تحول واشنطن هذه الأزمة لفرصة تستهدفها مع موسكو بشكل متزامن، وبالتالي فهي تجد أن هذه الحرب لا تخدمها من الناحية الاستراتيجية، لأنها ستعرقل تمددها الاقتصادي في العالم إذا ما ذهبت أبعد من ذلك في موقفها ضد الغرب (أوروبا وأمريكا)، ولن تؤرقها مشاهدة الرئيس الروسي بوتين أمام أسوراها مستنجداً لفتح أسواقها أمامه ودعم اقتصاده الذي سيعاني لسنوات طويلة جراء العقوبات الغربية عليه بالمقارنة مع خيار المواجهة حالياً مع الغرب.
بدا واضحاً أن كلاً من روسيا وأوكرانيا قد خسرتا الحرب، بغض النظر عن نتائج المعركة، لكن هناك تساؤل: من كسب هذه الحرب ومن تضرر أيضاً إلى جانب روسيا وأوكرانيا؟
لا شك أن تداعيات هذه الحرب ستكون كبيرة وسلبية على أوروبا بالرغم من مشاركتها الولايات المتحدة الأمريكية في إدارة الصراع، إذا ما حصرت هذه التداعيات فقط في قطاع الطاقة وتوقفت روسيا عن إمدادها في حال رفضها دفع مستحقاتها المالية بالعملة الروسية. هذه التداعيات نفسها تنقلب إيجابية لصالح الولايات المتحدة الأمريكية في حصد المزيد من النقاط في هذه الحرب ومنها:
أولاً، إصرار الولايات المتحدة الأمريكية وتأكيدها على قيادة العالم دون منازع بعد أن عمدت على إضعاف أحد المنافسين المحتملين لها وهي روسيا، لما سيلحق الاقتصاد الروسي من إرهاق جراء العقوبات التي فرضت عليها.
ثانياً، التأكيد على أن حلف شمال الأطلسي ليس في حالة “موت سريري”، كما وصفه ماكرون قبل ثلاث سنوات، بل ما زال يمثل الأداة الفعالة عسكرياً بقيادة أمريكا في أوروبا والعالم.
ثالثاً، التأكيد لأوروبا أنه لا غنى عن الوجود العسكري الأمريكي فيها، ومحاولات بعض الدول، مثل فرنسا أو ألمانيا، في جعل أوروبا مستقلة عسكرياً عن أمريكا، ليست إلا أفكاراً طوباوية في ضوء السعي الروسي المستمر لزعزعة أمن واستقرار أوروبا أو الهيمنة بالقوة على بعض دولها. وربما الأهم، هو ضرب أي تعاون بين الجارة الأوروبية الأقوى اقتصادياً (ألمانيا) وروسيا بعد أن أصبحت ألمانيا من أكبر الداعمين عسكرياً لأوكرانيا في حربها ضد القوات الروسية.
وأخيراً، توجيه رسالة قوية للصين، أن المعسكر الغربي بقيادة أمريكا بات أكثر قوة وتماسكاً في مواجهة أي نوايا تهدف إلى العبث بالنظام العالمي القائم، وأن استثمار الأزمة الروسية – الأوكرانية في الملفات الإقليمية والدولية لا ينبغي أن يخرج من سياق التعاون والتنسيق مع الغرب الأمريكي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى