آخرى

‏نحو مرحلة جديدة من النضـ.ــال السيـ.ــاسي في كردستان


قاسم عمر

‏يشهد الخطاب الكردي المعاصر تحولًا جوهريًا في بنيته الفكرية والاستراتيجية، يتمثل في الانتقال من منطق المواجهة العسكرية إلى أفقٍ سياسي يهدف إلى تحقيق الاعتراف والشرعية ضمن إطارٍ ديمقراطي شامل. هذا التحول لا يمكن اعتباره تراجعًا عن الأهداف القومية، بل هو خطوة مدروسة نحو ترسيخها بوسائل أكثر استقرارًا وفعالية. فالمرحلة الراهنة تعكس إدراكًا عميقًا بأن النضال لا يقتصر على حمل السلاح، بل يمتد إلى بناء الأسس القانونية والدستورية التي تضمن استمرارية الوجود والهوية في إطارٍ شرعي.

‏إن التحول نحو المسار السياسي يُعبّر عن رؤيةٍ واقعية تتفهم تعقيدات التاريخ والاجتماع، وتُدرك أن العلاقة بين المكونات المتجاورة لا تُبنى على القطيعة، بل على إعادة صياغة العلاقة ضمن مفهومٍ جديد للشراكة والتكامل. فالانتقال إلى فضاء الشرعية الديمقراطية لا يعني نهاية المقاومة، بل تجسيدها في صورةٍ أكثر نضجًا، تسعى إلى دمج الحقوق الكردية ضمن النظام السياسي بطريقة تُنهي منطق الإقصاء، وتفتح المجال لبناء جمهوريةٍ تركيا الديمقراطية قائمة على التعددية والمواطنة المتساوية.

‏إن ما يجري اليوم ليس انسحابًا أو ضعفًا، بل إعادة ترتيبٍ للمرحلة بما يتناسب مع أهدافٍ أوسع تتجاوز حدود الجغرافيا نحو بناء مشروعٍ سياسيّ قادر على ضمان السلام الدائم، وتحويل الصراع التاريخي إلى طاقةٍ بنّاءة تُسهم في استقرار المنطقة بأسرها. فالقوة الحقيقية لا تكمن في الاستمرار في الحرب، بل في القدرة على تحويل مسارها نحو السلام، دون التفريط بالكرامة أو التنازل عن الحقوق.

‏إن المرحلة الجديدة التي تشهدها الحركة السياسية الكردية لا تقتصر على بعدها الداخلي فحسب، بل تحمل انعكاساتٍ إقليمية بالغة الأهمية. فاختيار طريق الحل الديمقراطي يعني كسر الحلقة المفرغة التي وُضعت فيها القضية الكردية لعقود، وإعادة إدماجها ضمن إطارٍ وطني يوازن بين الانتماء القومي والمواطنة الجامعة. هذا الخيار يفتح الباب أمام إعادة بناء الثقة بين الشعوب المتجاورة، ويضع الأساس لتحولٍ استراتيجي يمكن أن يُعيد رسم ملامح العلاقة بين الكرد ومحيطهم الإقليمي على قاعدة التفاهم لا الصراع.

‏إن دعوة القوى الكردية إلى اعتماد مرحلة انتقالية قوية، تقوم على إعادة تأهيل البنى القانونية والدستورية، تعكس وعيًا عميقًا بضرورة الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية المؤسسية. فإرساء القواعد القانونية للجمهورية الديمقراطية لا يعني التنازل عن الحقوق، بل تثبيتها ضمن منظومةٍ مستدامة تحميها القوانين لا البنادق. وبذلك يتحول النضال من ساحة المواجهة إلى فضاءٍ تشريعي وسياسي، يكون فيه الحوار بديلاً عن السلاح، والتفاهم أداةً لبناء المستقبل.

‏هذا التحول، في جوهره، يعبر عن رؤيةٍ تنظر إلى السلام بوصفه امتدادًا للنضال لا نقيضًا له، وعن إدراكٍ بأن استمرار الصراع لا يخدم سوى القوى التي تستثمر في الانقسام. لذلك فإن الانتقال إلى العمل السياسي المنظم يُعد خطوةً تاريخية باتجاه تحقيق التوازن بين الكرامة والواقعية، وبين الثبات على المبادئ والانفتاح على الحلول. ومن شأن هذا المسار أن يمنح المنطقة فرصة نادرة لتجاوز أزماتها البنيوية، ولبناء سلامٍ عادل يضمن حقوق الجميع دون إقصاء أو إنكار.


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى