من وحي المعـ.ـاناة المستمرة نستذكر اتفاقية سايكس – بيكو المشـ.ـؤومة
فيصل يوسف
عند البحث في مسببات الأزمات المتلاحقة التي تعصف بمنطقتنا وتستنزف مقدراتها، تتبدى أمامنا خيوط واضحة تشد حاضرنا المعقّد إلى الماضي قبل أكثر من قرن، عبر اتفاقية سايكس – بيكو.
فمازلنا نشهد صراعات حدودية مزمنة، وحروباً أهلية تنهش النسيج المجتمعي، وأنظمة حكم عاجزة عن استيعاب التنوع، وسياسات استهداف منهجي للهويات الثقافية والقومية؛ وكلها ظواهر تتكرر بأشكال متعددة، لكنها تنبع من واقعة تاريخية واحدة لم تتوقف يوماً عن إذكاء الحروب والخلافات، وهي تلك الاتفاقية المشؤومة التي رسمت مصير الشرق الأوسط في مطلع القرن الماضي.
لم تكن سايكس – بيكو مجرد صفقة سرية عابرة وُقّعت خلال الحرب العالمية الأولى عام 1916 بل مثّلت “ولادة قسرية” للمنطقة بصورتها الراهنة. آنذاك، جرى رسم كيانات سياسية جديدة فُصّلت وفق مصالح الدول الكبرى التي أبرمت الاتفاق وشهدت عليه، بمعزل كامل عن الإرث التاريخي العميق، والتكوينات الاجتماعية، والروابط الاقتصادية والثقافية التي صهرت حضارة المنطقة عبر قرون طويلة. ويكفي تأمل خرائط المنطقة قبل ذلك التاريخ وبعده لإدراك حجم التشوّه الذي خلّفته تلك “الخطوط المستقيمة” إذ قطّعت أوصال الجسد الواحد، ورسمت حدوداً لم تراعِ الأواصر الاجتماعية والقبلية والقومية، فقسمت قرى وبلدات مترابطة، وشتّتت عائلات واحدة، وعطّلت شرايين تجارية حيوية كانت تصل المدن والأقاليم بعضها ببعض.
ومع تعاقب العقود، تحولت تلك الخطوط الورقية إلى جدران إسمنتية وأسلاك شائكة تفصل بين الأهل والشعوب، وترافق ذلك مع عزل سياسي ونفسي عميق. كما جرت محاولات ممنهجة لطمس هويات تاريخية ودفعها نحو التهميش لصالح هويات “مصطنعة” غير جامعة، ما جعل الانتماء الوطني في حالات كثيرة أمراً مفروضاً بالقوة لا خياراً طوعياً نابعاً من القناعة.
اليوم، وبعد مرور أكثر من مائة عام على تلك اللحظة المفصلية، لاتزال دول المنطقة تدفع ثمن هذه الولادة المشوّهة؛ فمعظمها، ورغم حصوله لاحقاً على استقلال شكلي، أخفق في بناء مشروع وطني متماسك ينبع من إرادة المواطنين ويحقق تطلعاتهم في الحياة الحرة الكريمة. ويعود ذلك إلى خلل بنيوي عميق، إذ لم تُبنَ هذه الدول على عقد اجتماعي طوعي قائم على التوافق والمواطنة المتساوية، بل قامت على شرعية القوة ومصالح النخب الحاكمة وداعميها الخارجيين، مستمدّةً سيطرتها من وصاية الانتداب، أو من شعارات قومية فضفاضة، أو من خطاب أمني وادعاءات “المقاومة” التي تُصادر حقوق الداخل بذريعة مواجهة الخارج.
وأمام هذا الإرث الثقيل، انقسمت المقاربات إلى تيارين متناقضين؛ تيار يختزل أزمات المنطقة كلها في “المؤامرة” التاريخية، ويفرّ إلى خطابات “وحدوية” عاطفية تفتقر إلى أي بديل عملي قابل للتطبيق، وتيار آخر يتعامل مع الدولة القُطرية القائمة كقدر نهائي لا يجوز نقاشه، متجاهلاً العيوب الجوهرية التي وُلدت معها.
الأول يلوذ بماضٍ شعاراتي متخيّل بدفع فاتورتها الشعوب، والثاني يستسلم لحاضر مأزوم دون محاولة جادة لتغييره. هذا الخلل التأسيسي يفسّر تحوّل “الدولة الوطنية” في كثير من الحالات إلى دولة هشّة أو فاشلة؛ فغياب الشرعية المستمدة من رضا المواطنين ومشاركتهم في القرار دفعت الأنظمة الحاكمة إلى التمسك بأدوات القمع في مواجهة المجتمع، ما أدى إلى تضخم الأجهزة الأمنية، وترسيخ منطق الولاء الأعمى، وتصوير التعددية بوصفها تهديداً وجودياً، ليغدو المواطن إما تابعاً مطيعاً أو موضع شبهة دائمة، في ظل غياب شبه كامل للمواطنة الحقيقية والحقوق الفردية والجماعية المتساوية، وهكذا حلّ الدمار والخراب في العديد من دول المنطقة، ومنها سوريا.
وتبرز المسألة الكوردية كنموذج صارخ للنتائج الكارثية لاتفاقية سايكس -بيكو، حيث جرى تقسيم الجغرافية الكوردية بين أربع دول، ليتحوّل الكورد إلى مواطنين من الدرجة الثانية، يعانون من إنكار منهجي لهويتهم ولغتهم، ومحاولات صهر قسري عبر سياسات تمييزية شوفينية. والمؤلم أن هذا الإنكار لم يقتصر على الأنظمة الحاكمة، بل تبنته أيضاً بعض النخب القومية العربية والتركية والفارسية التي رأت في حقوق الشعب الكوردي “خطراً” على وحدة الدولة التي ورثتها أصلاً عن سايكس – بيكو. وهنا تتجلى مفارقة أخرى، ففي الوقت الذي جرى فيه القبول بالتقسيم الجغرافي الخارجي المفروض، رُفض أي توزيع عادل للسلطة أو الثروة في الداخل، وصُوّرت اللامركزية أو التعددية كوسائل لتفكيك الكيان الوطني، بدلاً من اعتبارها ركائز لاستقراره وتماسكه.
ها نحن في نهاية عام 2025 ولاتزال شعوب المنطقة تكابد هذه التبعات الثقيلة، فسوريا تحاول الخلاص من إرث النظام السابق، وتعاني من الدمار والانقسام وثقافة الحقد والكراهية والتعصب، والعراق يتأرجح وسط أزمات طائفية وسياسية مزمنة، ولبنان يقدم نموذجاً صارخاً لدولة عاجزة عن إدارة تنوعها تستغلها قوى إقليمية لمصالحها، فيما تحاول تركيا معالجة المسألة الكوردية بعد كلف بشرية ومادية جسيمة، عبر مسارات مصالحة ومشاريع سلام بخطوات بطيئة ومترددة.
حتى القوى التي رفعت شعار “محو حدود سايكس – بيكو” لم تقدم بديلاً عادلاً، بل فشلت فشلاً ذريعاً، وطرحت في كثير من الأحيان أشكالاً أكثر بدائية من الاستبداد والهمجية، مثل التدخلات العراقية في الكويت، والسورية في لبنان، والمشاريع السياسية الإسلامية المتطرفة كتنظيم “داعش”، الذي استخدم شعار “محو سايكس – بيكو” دعائياً لتعبئة الجماهير، لا بهدف تحرير الشعوب أو إعادة صياغة العقد الاجتماعي، بل لفرض استبداد أشد ظلمة باسم “الخلافة” والوحدة.
إنه النموذج القمعي ذاته يعيد إنتاج نفسه، فرفض الحدود المصطنعة لا يعني بالضرورة بناء توافقات أكثر عدالة، بل قد يؤدي إلى استبدالها بحدود أيديولوجية أشد إطلاقاً وشمولية وقمعاً ان لم يكن مدروساً بعناية تأخذ في الاعتبار مصالح الشعوب، لا الركون لبعض النظريات المتطرفة وشعاراتها البراقة .
إن السؤال الملح اليوم لا يكمن في كيفية إدانة التاريخ، بل في كيفية الخروج من مأزقه. فالحل لا يتجسد في الحنين إلى الماضي السحيق ومرحلة ما قبل الدولة ، ولا في التغني بالنظريات والشعارات التعبوية، بل في إعادة بناء جذرية للدولة على أساس عقد اجتماعي جديد يعترف بالتعددية بوصفها مصدر غنى وقوة، ويكفل شراكة حقيقية في السلطة والثروة عبر أنظمة لامركزية أو فيدرالية بوصفها آليات للحكم الرشيد.
بعد قرن من الزمن، باتت سايكس – بيكو عنواناً لمعاناة الشعوب ومرآة تعكس فشلاً متواصلاً في تصحيح الخطأ الناجم عنها. إن المطالب الأكثر إلحاحاً، هي آليات تحقيق العدالة الاجتماعية، والاعتراف المتبادل، والاهتداء بتجارب ناجحة كالاتحاد الأوروبي ونظائرها، عندها فقط يمكن لجرح القرن أن يندمل، وأن يُفتح فصل جديد تصنعه الشعوب بإرادتها الحرة، لا بقرارات فُرضت عليها في غرف مغلقة و بمنأى عن مصالحها.
آن الأوان لمن وقع اتفاقية سايكس – بيكو والمجتمع الدولي بأن تُطرح مشاريع عملية لتصحيح الخطيئة التاريخية المتعمدة والعمل على تمكين الشعوب المتضررة من ممارسة حقوقها، حتى يتوقف نزيف القتل والنزوح والدمار والتعصب الأعمى، ويغدو الشرق الأوسط منطقة سلام وأمان وازدهار، ودولاً تسعى إلى تكامل إقليمي حقيقي يقوم على المصالح المشتركة والإرادة الحرة لشعوبها، لا على الإكراه أو الشعارات الجوفاء.



