مقالات رأي

سوريا بعد عام من وصول “الشرع” إلى القصر

محمود العلي -1-
مع سقوط نظام البعث في سوريا، ووصول ما تسمى “هيئة تحرير الشام” إلى سدة السلطة، أخذت البلاد منحى جديداً ومغايراً، دخلت معها في حالة فوضى عارمة، خاصة بعد قرار ما كان يسمى حينها قائد عملية “ردع العدوان”، الرئيس السوري المؤقت لاحقاً “أحمد الشرع” بتعليق العمل بالدستور، وحلّ الجيش والأجهزة الأمنية والأحزاب السياسية، إضافة إلى توقّف العمل في معظم مؤسسات الدولة الخدمية والإدارية.
يتبيّن لأي متتبع لسير أحداث سقوط النظام السابق، أنها كانت مجرد مسرحية تم الإعداد لها في الدوائر الغربية، واتخذ قرار رحيل رأس النظام وحاشيته الأمنية والعسكرية في اجتماع الدوحة، الذي عقد في السابع من شهر ديسمبر/ كانون الأول 2024، بين وزراء خارجية عدة دول، من بينها إيران، تركيا، قطر وروسيا، وتحت إشراف أمريكي وأوروبي مباشر. بالطبع إسرائيل كانت الغائب الحاضر في رسم ذاك المخطط وتنفيذه. وتم تهيئة الأجواء لتنصيب “هيئة تحرير الشام” على السلطة، بعد أن تم الإعداد للعملية منذ الشهر التاسع، وجرى تدريب “أبو محمد الجولاني” والذي تحول لاحقاً إلى “أحمد الشرع”، من قبل شركة “Inter-Mediate/ إنتر ميديت” البريطانية، والتي كان يديرها “جوناثان باول” الذي أصبح مستشاراً للأمن القومي البريطاني لاحقاً. وذكر السفير الأمريكي السابق لدى دمشق “روبرت فورد” أنه شارك في تدريب “الجولاني” في إدلب لصالح الشركة البريطانية، بهدف تأهيله سياسياً ودمجه في الحياة السياسية بعد سنوات من انخراطه في جماعات مصنفة إرهابياً على المستوى العالمي.
سيناريو إخراج الرئيس بشار الأسد وأبرز معاونيه من رؤساء الأفرع الأمنية وضباطٍ كبار في الجيش ومسؤولين في القصر الجمهوري، تمت بتوافق بين كل من تركيا، قطر، روسيا و”الجولاني”، أي أن الأسد خرج تحت حراب “الهيئة” وبعلمها، ودون أن تحرّك ساكناً. والكل يعلم أن “الجولاني” وهيئته وصلا إلى القصر دون أي قتال يذكر، بل حصل بضوء أخضر روسي، تركي، قطري وحتى أمريكي وأوروبي، كما أوضح “الجولاني” في إحدى مقابلاته بأن القوات الروسية أبلغتهم بانسحابها من حماة، حتى قبل أن تصل قواته إلى مشارف المدينة. فيما كانت الاستخبارات التركية والغربية تعمل على حماية “الجولاني” وإيصاله إلى القصر.
الخطوة الأولى التي اتخذها “الجولاني” الذي تحول إلى “أحمد الشرع” بعد وصوله إلى القصر، أن دعا في 20 يناير/ كانون الثاني 2025، وبإيعاز وتعليمات من الاستخبارات التركية والغربية، إلى عقد “مؤتمر النصر”، ليعلن نفسه “رئيساً سورياً مؤقتاً”، من خلال توافق بين فصائل ومرتزقة دولة الاحتلال التركي، وليبدأ “الشرع” بإصدار المراسيم والقرار تلو الآخر، دون أي مرجعية شرعية أو دستورية.
فيما كان “الشرع” وحاشيته يحتفلون بوصولهم إلى السلطة، كانت مناطق شمال وشرق سوريا تتعرض لهجمات واعتداءات من دولة الاحتلال التركي ومرتزقتها. فبعد النزوح القسري لمهجّري عفرين من مناطق الشهباء إثر المعارك التي شهدتها، والمشاهد المأساوية لنزوح مهجّري عفرين مرة ثانية، والتي من المفترض أن يهتز لها الضمير الإنساني، إلا أن أحداً لم يحرك ساكناً. فلولا تدخل قيادة سوريا الديمقراطية بكل قوتها وفعاليتها، لكان شعبنا في الشهباء، وكذلك في أحياء الشيخ مقصود والأشرفية بحلب، وجهاً لوجه مع إبادة جماعية، حيث تمكنت (قسد) والإدارة الذاتية من إيصال أبناء عفرين في مناطق الشهباء إلى أماكن آمنة في الطبقة والرقة، فيما أرسلت قوات مؤازرة إلى حيي الشيخ مقصود والأشرفية لحماية شعبنا من أي عدوان قد يطالهم.
ركَّز الاحتلال ومرتزقته هجماتهم العدوانية على مناطق سد تشرين وجسر قره قوزاق، في محاولة لعبور نهر الفرات ومد سيطرتهم على السد، وصولاً إلى كوباني وعين عيسى والطبقة والرقة. أي السيطرة على جميع مناطق شمال وشرق سوريا. لكنهم واجهوا مقاومة بطولية لا مثيل لها في التاريخ الحديث من قبل قوات سوريا الديمقراطية وجميع مكونات شمال وشرق سوريا. والعالم أجمع تابع كيف كان أبناء المنطقة يقفون إلى جانب مقاتليهم في حراسة السد، رغم تعرضهم لهجمات وحشية من قبل الاحتلال واستشهاد وجرح العشرات منهم، والقناعة الراسخة لدى الجميع بأن سقوط مقاومة سد تشرين وقره قوزاق، ستفتح شهية الاحتلال للتمدد في مناطقنا، لكن ذاك الحلم الطوراني تحطم تحت أقدام مقاتلي (قسد) الذين أحبطوا كل مخططات الاحتلال ومرتزقته على أسوار السد والجسر. وتحت ضربات مقاتلي (قسد) التي ألحقت بالاحتلال خسائر فادحة في العدد والعتاد نتيجة المقاومة التي استمرت أكثر من ثلاثة أشهر، أذعن الاحتلال للقبول بعملية وقف إطلاق النار التي أشرف عليها التحالف الدولي وخاصة الولايات المتحدة، وذلك بعد إدراكه أنه لن يحقق حلمه في السيطرة على السد ليعتبرها بوابة له لاحتلال مناطق أخرى، خاصة كوباني.
بالتزامن مع ذلك عمد الاحتلال التركي ومرتزقته إلى إثارة الفوضى في بعض مناطق شمال وشرق سوريا، وتحريض بعض ضعاف النفوس للوقوف ضد الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، واللعب على الوتر العشائري والقومي وبث الفتن، بهدف زعزعة أمن واستقرار مناطق شمال وشرق سوريا. إلا أن تماسك البنية المجتمعية، ووقوف العشائر العربية والكردية وجميع مكونات المنطقة ضد تلك المجموعات الصغيرة المنفلتة، وكذلك مستوى الوعي لدى أهالي المنطقة بضرورة الحفاظ على المكتسبات التي تحققت في ظل الإدارة، كانت كفيلة بإحباط تلك المحاولات، وعودة الأمن والاستقرار. إلا أنها كانت فترة حرجة مرّت بها الإدارة الذاتية و(قسد)، ولكنها تعاملت مع الحدث بحذر يقظة وبكثير من الحساسية، رغم أن الاحتلال كان يعوّل على تلك الأعمال كثيراً في إحداث خلخلة للأوضاع وضرب استقرار المنطقة.
عمد “الشرع” إلى إقالة الحكومة السابقة في عهد نظام البعث، وتعيين ما يسمى رئيس حكومته في إدلب بدلاً من الرئيس السابق للوزراء. من جهة أخرى قرر إطلاق ما أسماه “الحوار الوطني”، وكان يشبه كل شيء إلا الحوار، ولا يتميز عن الحوار البيزنطي والطرشان بشيء، حيث حاور نفسه ولم يدعو إليه أياً من مكونات الشعب السوري للمشاركة فيه، بل مارس منذ البداية نهجاً إقصائياً همّش باقي المكونات، حيث لم يدم الإعداد له سوى أياماً معدودة، وخرج بنتائج كانت موضوعة مسبقاً، ليطرح بعدها إنشاء لجنة تعمل على إعداد إعلان دستوري مؤقت، يناسب وضع “الشرع” وزمرته في السلطة، وهو الآخر كان أشبه بتعديل الدستور السوري عندما تم تعيين بشار الأسد خلفاً لوالده. فلم يدعو إلى مشاركة باقي المكونات السورية في الإعداد لذاك الدستور، بل اقتصر على مشاركة بطانته وبعض الشخصيات من جماعة الإخوان المسلمين، وذلك بضغط وإشراف تركي بالدرجة الأولى. وعلى الفور بدأ بتشكيل ما تسمى الحكومة، والتي مثلت لوناً واحداً، اقتصر على تعيين قياداته السابقة في “هيئة تحرير الشام”، كما ضم إليها شخصيات مشوّهة ومنبوذة من المجتمع السوري، فيما غاب تمثيل المرأة فيها، عيّن امرأة واحدة فقط، وهي أيضاً من الموالين لها. ولم يدعُ ممثلو الشعب الكردي للمشاركة في الحوار وإعداد الدستور وتشكيل الحكومة، رغم أنه، أي الشعب الكردي، يمثل القومية الثانية في البلاد، وكذلك استُبعدت الإدارة الذاتية التي تدير أكثر من ثلث جغرافية سوريا، وغاب عنها العلويون والدروز وحتى “السنة” المعتدلون أيضاً، فكانت حكومة من “هيئة تحرير الشام” بالكامل.
إلا أن الخطر الأكبر في وصول تلك الزمرة إلى السلطة، تمثل في تعيين إرهابييها في مناصب عليا في الدولة، خاصة في الجيش ووزارات العدل والداخلية والخارجية، مثل “مرهف أبو قصرة” و”أنس الخطاب” و”أسعد الشيباني” و”مظهر الويس”، والأخطر هو تعيين الإرهابيين الأجانب في وزارة الدفاع مثل التركي “عمر محمد جفتجي” المسؤول العسكري عن دمشق، إضافة إلى منحهم الجنسية السورية، بزعم أنهم “دافعوا عن سوريا منذ خمسة عشر عاماً”. وبموجب هذه الذريعة تم تجنيس آلاف الإيغور، الشيشان، التركمانستان، الطاجيك، وغيرهم ممن قدموا إلى سوريا وعملوا في صفوف التنظيمات المتطرفة الإرهابية ونكّلوا بالشعب السوري.
ظهر الوجه الحقيقي لـ”الشرع” وحكومته في المجازر التي اُرتكبت في الساحل السوري خلال شهر مارس/ آذار، حيث عمد إلى توجيه إرهابييه من كل التنظيمات إلى مناطق العلويين، ونفذوا تحت يافطة “ملاحقة فلول النظام السابق”، عمليات قتل على الهوية والانتماء الطائفي والمذهبي، واقتحمت عناصره الإرهابية جميع مناطق العلويين وأبادت عوائل بأكملها، ولم تفرق بين طفل أو امرأة أو كبير في السن، والعديد من الشبان قتلوا أمام ذويهم، دون إبداء أي نوع من الرحمة أو الإنسانية. بل كانوا يقولون علناً بأن “قتل العلويين من جهاد في سبيل الله”. عمدوا إلى توثيق معظم عمليات القتل ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. لم يكتفوا بكل ذلك، بل عمدوا إلى خطف النساء والفتيات العلويات وبيعهن في أسواق النخاسة التي افتتحت في إدلب، في امتهان واضح لكرامة الإنسان والمرأة خصوصاً. وما تزال عمليات قتل العلويين بسبب انتمائهم الطائفي وبجريرة النظام السابق مستمرة في مناطق الساحل السوري، وكذلك في جميع المناطق التي يسكن فيها العلويون في الداخل، مثل حمص ودمشق وريف حماة الغربي، ويدعون علناً إلى إبادتهم عن بُكرة أبيهم.
لم تنتهِ فصول الانتهاكات في سوريا منذ اليوم الأول لوصول هذه الزمرة لسدة الحكم، لأن بنيتها العقائدية والإيديولوجية تعتمد على العنف والقتل والمجازر، وهي لا تستطيع الاستمرار دون اللجوء إليه مثل الأسماك التي تموت عندما تخرج من المياه.
يتبع…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى