مقالات رأي

عبدالله أوجـ.ـلان.. محور المرحلة وصمام الأمان في مسار السلام

تشهد الساحة الإقليمية في السنوات الأخيرة تحولات استراتيجية متسارعة، ولا سيما في ما يتعلق بالعلاقة بين أنقرة والأطراف الكردية داخل تركيا وفي مناطق شمال العراق وشمال شرق سوريا. وفي هذا السياق يبرز عبد الله أوجلان، بوصفه القائد التاريخي لحزب العمال الكردستاني، كشخصية ذات تأثير عميق في مسارات الصراع والحوار، ليس فقط بحكم رمزيته، بل أيضًا بسبب دوره المركزي في تشكيل بنية القضية الكردية داخل تركيا وخارجها. وقد أدى الاهتمام السياسي المتزايد به من جانب أطراف تركية مختلفة، من بينها قوى تنتمي إلى التحالف الحاكم وأخرى من التيار القومي، إلى إعادة وضعه في قلب النقاش المتعلق بفرص السلام والاستقرار.

شهدت الفترة الماضية مبادرات برلمانية غير مسبوقة، حيث صوّتت لجنة تركية مختصة بقضايا التماسك الوطني والديمقراطية على إرسال وفد رسمي إلى سجن إيمرالي للقاء أوجلان. كما قامت وفود من أحزاب سياسية بزيارته بالفعل، وهو ما يعكس تحوّلًا ملحوظًا في المقاربة الرسمية تجاه شخص ظل لسنوات موضع قطيعة سياسية كاملة. هذا الانفتاح البرلماني ترافق مع مواقف لافتة لزعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، الذي شدد أكثر من مرة على ضرورة إجراء لقاء مباشر مع أوجلان، معلنًا استعداده لزيارته بنفسه إذا لم يقم البرلمان بالإجراء. ومثل هذا التصريح، الصادر عن شخصية تمثل التيار القومي الشديد، يحمل دلالات مهمة تشي بإدراك أن تجاوز أوجلان في أي مشروع سياسي يخص القضية الكردية لم يعد ممكنًا.

لا ينفصل هذا الحراك الداخلي التركي عن المشهد الإقليمي. فالكثير من المحللين يرون أن انفتاح أنقرة على الحوار، وإن كان محفوفًا بالتعقيدات، يعكس رغبة عملية في البحث عن حلول سياسية تتجاوز المقاربات الأمنية التقليدية. كما أن أثر هذا الانفتاح لا يتوقف عند حدود تركيا، بل يمتد نحو مناطق النفوذ الكردي في إقليم كردستان وشمال شرق سوريا، حيث ما زالت أطراف عديدة تستلهم خطاب أوجلان ورؤيته السياسية. وبالتالي فإن أي تحوّل في وضعه أو في مستوى التواصل معه ينعكس على مستوى الاستقرار في هذه المناطق.

يحمل أوجلان وزنًا رمزيًا لا يمكن تجاهله، ليس فقط لكونه مؤسسًا لحركة سياسية مسلحة، بل أيضًا لكونه صاحب رؤية فكرية شكّلت وعي أجزاء واسعة من المجتمع الكردي. هذا الوزن يمنحه قدرة استثنائية على التأثير في القواعد الاجتماعية والسياسية، الأمر الذي يجعل منه عنصرًا محوريًا في أي محاولة لإطلاق عملية سلام جديدة. وتفيد تقارير عديدة بأنه لا يزال من داخل سجنه يقدم رؤية سياسية تدفع باتجاه حل ديمقراطي، يتضمن انتقالًا من الصراع المسلح إلى مسار سياسي شامل، إذا توفرت ضمانات جدية لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة التركية والمجتمع الكردي.

كما أن اللقاءات البرلمانية معه تؤكد أن الدولة بدأت تنظر إليه بوصفه قناة اتصال يمكن أن تسهم في تخفيف التوترات الداخلية وفي نقل رسائل سياسية إلى القوى الكردية داخل تركيا وخارجها. وقدرة أوجلان على التأثير في تيارات ذات حضور مسلح أو سياسي، معروفة جيدًا لدى صانعي القرار الأتراك، وهو ما يفسر إصرار بعض النخب التركية، وخاصة القومية منها، على أن تجاهله قد يكون مكلفًا للغاية، وأن أي خطأ في إدارة الملف الكردي يمكن أن يقود تركيا إلى مرحلة من عدم الاستقرار قد تهدد وحدتها الداخلية.

من هنا برز وصف أوجلان بـ”رجل المرحلة”. فشخصيته تجمع بين الرمزية السياسية والثقل الشعبي والخبرة التفاوضية التي اكتسبها خلال محاولات سابقة لوقف إطلاق النار ومبادرات حل تعرضت للانهيار. وتظهر المؤشرات أن قطاعات واسعة داخل الدولة التركية باتت مقتنعة بأن إشراكه ليس خيارًا ثانويًا، بل ضرورة لتجنب تكرار دوائر العنف، ولتأسيس مسار سياسي طويل المدى يعالج جذور القضية بدل تركها عرضة للانفجار.

في ضوء ما تقدم، تبدو المرحلة الحالية فرصة حقيقية لإعادة بناء مسار سلام طال انتظاره، شرط أن تتحلى الأطراف المعنية بالشجاعة السياسية وتبتعد عن الحلول الرمزية أو الظرفية. إن إشراك أوجلان بوضوح في هذا المسار قد يسهم في إنتاج معادلة جديدة تسمح باستقرار داخلي أوسع، في حين أن تجاهل دوره قد يبقي الملف معلقًا على احتمالات خطيرة لا تخدم تركيا ولا المنطقة.


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى