السويداء.. عقدة أوديب السورية وحلها

محمود علي
مرة أخرى أثبتت الأحداث الدائرة في مدينة السويداء؛ انزلاق سوريا إلى مستنقع الحرب الأهلية الآسن، وأن لا أحد يستطيع التكهن بمصيرها، في ظل استمرار الاشتباكات بين كافة الأطراف، والتي حولت منحى الصراع، بكل تفاصيله الدموية، إلى صراع طائفي ومذهبي مقيت، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
ما ثبت خلال الأيام الماضية من تلك الحرب المفتوحة على كل الاحتمالات، أن أطرافاً دولية وإقليمية ضالعة بشكل مباشر في الحرب، حتى أن أجهزة استخبارات بعض الدول الإقليمية تقودها من غرف عمليات في دمشق والسويداء ودرعا. فرغم أن إسرائيل كشفت عن وجهها في مساندة الدروز وقواتهم العسكرية من خلال القصف الجوي، إلا أنها هي أيضاً متورطة في مشروع يُعدُّ لسوريا في الخفاء، وتظهر تجلياته الأولية في الحرب الدائرة في السويداء.
غير أن ضعف الدولة السورية، وعدم تمكنها من اتخاذ موقف متوازن غير منحاز لأي من الأطراف، أججت أوار الحرب، وأوصلتها إلى نقطة اللا عودة، وباتت هي طرفاً وخصماً، بدلاً من أن تحتكم إليها جميع الأطراف، وتحفظ الحقوق، وتفرض سيادة الدولة. والدولة التي تسترت تحت شعارات “فرض السيادة وإعادة الأمن والأمان”، فقدت معها مصداقيتها أمام الشعب السوري والرأي العام العالمي، بعد أن تبين أنها هي من تقود وتخطط للهجمات بشكل مكشوف، وفي كل مرة تفشل في إضفاء المشروعية على تحركاتها في الميدان، بل فقدت معها الدولة هيبتها ككيان، وهي التي لم تصل إلى تشكيل دولة مؤسسات قادرة على إدارة المجتمع السوري بكل أطيافه ومكوناته. إنه لمن سخريات قدر السوريين أن تؤلب الدولة جميع العشائر على أبناء شعبها، فبعد أن فشلت في السيطرة على السويداء وكسر مقاومتها، عمدت إلى تحشيد العشائر العربية وزجها في الحرب العبثية، حتى أن العديد من المشاركين لا يدركون الهدف الذي يقاتلون من أجله، والدولة أيضاً واقعة في متاهة، والزعم أن الحرب لفرض سيادة الدولة على السويداء وريفها؛ باتت رواية ممجوجة لا تقنع أحداً.
التخطيط للهجوم على السويداء، ليس وليد اللحظة، بل هو مخطط بدأ منذ الأيام الأولى لسقوط النظام السابق، ووصول هيئة تحرير الشام إلى سدة الحكم في دمشق، فالهجوم الذي شنته الهيئة أواخر شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قوبل بمقاومة عنيفة من أهالي السويداء، وعادت القوات المهاجمة خائبة لم تحقق أياً من أهدافها. وتتالت الأحداث باندلاع الاشتباكات في حي “جرمانا” بريف دمشق، والتي غالبية سكانها من الدروز، إثر تحريض طائفي لا معنى له، واستمرت مع الأحداث في الأشرفية وأشرفية صحنايا تحت ذريعة توجيه شخص درزي مسبات للرسول، وتبين أنها رواية تفتقد أساساً للمصداقية، خلقتها السلطات الحاكمة لتبرير هجماتها على الدروز. كل تلك الهجمات رافقها تصعيد إعلامي غير مسبوق في إلصاق جميع التهم بالدروز، وحتى إصدار فتاوى داخلية بضرورة وشرعنة قتالهم. البروباغاندا الإعلامية من قبل الموالين للسلطة الحاكمة، والتي سبقت الهجوم الأخير، تسببت في وصول الأمور إلى نقطة الانفجار، وبات الدروز في منظور جمهور السلطة من “الكفار” يجب محاربتهم بكل الوسائل، غير مدرك ما يدور في كواليس وغرف استخبارات الدول الإقليمية من مخططات تستهدف جميع السوريين، دون استثناء.
الاجتماع الذي عقد بين الرئيس السوري المؤقت “أحمد الشرع” والوفد المرافق له والذي ضم “أحمد الدالاتي” مسؤول الأمن في السويداء، مع وفد إسرائيلي برئاسة مسؤول الأمن القومي الإسرائيلي، خلال زيارة الأول لأذربيجان، جرى النقاش حول مطلب إسرائيل، وهو تنازل “الشرع” عن المطالبة بمنطقة الجولان السوري الذي تحتله إسرائيل، مقابل عدم اعتراض الأخيرة عن دخول قوات محسوبة على وزارة الدفاع السورية والأمن العام إلى السويداء بزعم بسط سيطرتها عليها.
مباشرة، وفي اليوم التالي لاجتماع أذربيجان، اقتحمت أرتال من قوات الحكومة السورية، ومعها أعداد كبيرة من الفصائل التابعة لها، وغير المنضوية تحت راية وزارة الدفاع منطقة السويداء، وارتكبت جرائم فظيعة، وتمكنت من السيطرة على معظم أرجاء المدينة وريفها، وواجهت مقاومة من أهالي السويداء وقوات مجلسها العسكري، إلا أنها لم تتمكن من إخراجها من المدينة.
لم تحرك إسرائيل ساكناً حتى بعد ظهيرة اليوم الثاني من العمليات العسكرية، ولم تبدِ رغبة في التدخل بادئ الأمر، إلا أن الضغط الذي شكلته الطائفة الدرزية في إسرائيل، اضطرت معه الحكومة الإسرائيلية وفي مقدمتهم “نتنياهو” ووزير دفاعه “كاتس” ورئيس هيئة الأركان إلى الخروج عن صمتهم، بعد تهديد بعض الضباط الدروز الكبار، والذين يشغلون مناصب عليا في الجيش الإسرائيلي، حتى في قيادة الأركان، بتقديم استقالاتهم إن لم تتدخل إسرائيل لحماية إخوتهم الدروز من المجازر التي يتعرضون لها في سوريا، وقد كان لموقف شيخ الموحدين الدروز في إسرائيل “موفق طريف” دور بارز في حمل إسرائيل على التدخل.
الضربات الإسرائيلية كانت أوسع من الهدف المُعلن عنه في حماية الدروز من عسف وقمع السلطات السورية، بل هددت بنية وكيان الدولة السورية من خلال قصفها المدمر لمبنى هيئة الأركان السورية، وكذلك استهدافها مقراً عسكرياً بالقرب من القصر الجمهوري، الأمر الذي يعد رسالة تهديد مباشرة إلى الرئيس “الشرع” وأركان حكمه من مغبة التمادي في قمع الأقليات في سوريا، واشترطت عليه سحب جميع قواته المتواجدة من الجنوب السوري، وهو ما تعتبره تهديداً مباشراً ومستقبلياً على أمنها، حيث تأكدت أكثر من جهة دولية وإقليمية مشاركة عناصر من تنظيم “داعش” في الهجوم على السويداء.
النفير العام الذي أعلنته الحكومة السورية، يوحي للوهلة الأولى وكأن الدولة السورية في حرب مع دولة أخرى، وليس ضد أبناء منطقة في سوريا. وبعد أن فشلت القوات الحكومية في استمرار سيطرتها على السويداء، وتكبدها خسائر فادحة جراء القصف الإسرائيلي، اضطرت إلى قبول وقف إطلاق النار، وانسحاب كامل قواتها من المدينة والريف.
وحالما شعرت بهزيمتها في المواجهة مع القوات الدرزية، خرجت من الباب لتعود مرة أخرى من نافذة ما تسمى “القوات العشائرية”، وتحدث شرخاً كبيراً في المجتمع السوري، ربما لا يتم رأبه خلال عشرات السنوات، وتبدأ معها جولة جديدة من القتال الشرس، بالتزامن مع القصف الإسرائيلي لأرتال ما تسمى “قوات العشائر” التي لم تكن سوى عناصر من الفصائل التابعة لهيئة تحرير الشام، ولكن بلبوس العشائر. ورغم ارتكابها مجازر جماعية، وإحراق المنازل والمحال التجارية، إلا أنها هي الأخرى لم تصمد أمام مقاومة أهل المنطقة ومقاتليها، الذين يعرفون تضاريسها، فأوقعوا المئات منهم في الكمائن، إلى جانب التغطية الجوية الإسرائيلية. وهُزمت ما تسمى “قوات العشائر” أيضاً، وليوقع اتفاق جديد لوقف إطلاق النار بين إسرائيل والدروز من جهة، والحكومة السورية، من جهة أخرى، وبرعاية أمريكية هذه المرة.
التزمت جميع الدول العربية الصمت إزاء الجرائم المرتكبة في السويداء، بل كانت، وخاصة الدول الخليجية، وبإعلامها، موالية للشرع وحكومته، تحت مزاعم بسط الدولة سيادتها على الأراضي السورية.
خطاب الرئيس السوري المؤقت “أحمد الشرع” الثاني، والذي جاء في الساعة الرابعة والنصف صباحاً، كان مخيباً للآمال، وجاء كلاماً منمقاً دون أن يقدم حلولاً للآلام التي تعانيها سوريا، بل كالَ المدائح للعشائر العربية التي وقفت معه وساندته في حربها على أهالي السويداء، وكأنه يقول بأن تحركاتهم جاءت بإيعاز وتوجيهات منه، وهو ما وضعه تحت مسؤولية قانونية ووطنية بالدرجة الأولى.
بعد كل تلك الفظائع؛ تحركت الولايات المتحدة عبر وزارة الخارجية ومبعوثها توماس باراك، والذي ظل يدافع عن الحكومة السورية، ولو بشكل موارب، لتعمد الخارجية الأمريكية إلى تفنيد أقوال باراك السابقة، ولو بشكل غير مباشر، ولتترك الباب مفتوحاً أمام السوريين في اختيار نموذج دولتهم المستقبلية ما بين اللا مركزية والفيدرالية، تاركة الخيار للسوريين. في حين كان خطاب وزير الخارجية روبيو تهديدياً مبطناً للحكومة السورية ليعيد رسم علاقة التعامل معها، ورافعاً شعار العقوبات في وجهها، وكأنه يقول إن ما قبل مجازر السويداء لن يكون كما بعدها.
سقط رهان المبعوث الأمريكي على “الشرع” وحكومته، دفعه مرة أخرى للجوء إلى قائد قوات سوريا الديمقراطية الجنرال “مظلوم عبدي”، والبحث معه عن مخارج للأزمة التي وقع فيها “الشرع” ومن ورائه هو – أي باراك – وأيضاً تركيا، وطلب باراك من عبدي تدخل قواته في الفصل بين القوات المتحاربة في الجنوب، وأيضاً فتح كريدور/ ممر من السويداء نحو مناطق شمال وشرق سوريا، فهل يمد الجنرال عبدي يد العون لإنقاذ “الشرع” وانتشاله من المستنقع الذي أوقع نفسه والدولة السورية فيه، كما حصل أثناء المجازر التي وقعت في الساحل السوري بداية شهر مارس، آذار الماضي؟ سؤال مطروح ربما تأتي الإجابة عليه خلال الأيام القليلة القادمة. ورغم أن السويداء تعد بمثابة عقدة أوديب السورية، لكن المؤكد أنها ستفتح الطريق أمام تطورات جوهرية وعميقة في بنية الدولة السورية وهيكليتها، كما كانت دوماً على مر التاريخ، منذ هجوم إبراهيم باشا القولي المصري، مروراً بالهجوم الفرنسي وحتى يومنا، لتكون هي أيضاً رائدة الحل السوري إلى جانب مناطق شمال وشرق سوريا.