أحداث السويداء والدولة التي يستحقها السوريين

محسن عوض الله
لم تكن أحداث السويداء الأخيرة مجرد مواجهة أمنية عابرة أو احتجاجًا محدودًا في جنوب سوريا، بل مثّلت – بما حملته من دلالات ومؤشرات – لحظة كاشفة لهشاشة الدولة السورية بعد شهور من تسلم الحكومة الانتقالية الجديدة مقاليد الحكم. فقد أظهرت المواجهات أن بنية الدولة ما تزال عاجزة عن فرض الأمن وضبط التوازن، ولا تمتلك من أدوات الردع أو الاحتواء سوى الشعارات، بينما تُترك المناطق لتواجه مصيرها بالسلاح والفرز الطائفي والنفوذ الخارجي.
الأخطر من ذلك أن مؤسسات الدولة لم تعد تحظى بثقة السوريين، بعد أن فشلت في تقديم نموذج للحكم الرشيد. ما تزال معايير التوظيف والسلطة قائمة على الولاء لا الكفاءة، وعلى المحسوبية لا الخبرة، وهو ما يجعل أي دعوة لإعادة بناء الدولة بلا معنى، إذا لم تنطلق من مبدأ الشراكة والتمثيل الحقيقي لكل مكونات البلاد.
السويداء، بطبيعتها الجغرافية وتاريخها السياسي، لم تكن يومًا بؤرة توتر بقدر ما كانت صدىً لصوتٍ وطنيٍ أصيل، يعكس مخاوف سوريين كُثر من مستقبلٍ غامض، ومن دولة لا تُشبههم، ولا تمنحهم حقوقهم، ولا تستمع لصرخاتهم. لكن ما جرى في الأيام الأخيرة، من مجازر بحقهم وهجمات وإهانات لكراماتهم وخطابات انفعالية، لم يكن أكثر من نتيجة طبيعية لفشل الدولة – بكل مؤسساتها – في الإنصات لصوت العقل.
لا يمكن لسوريا أن تنهض من ركام الحرب وخراب السنين، إذا استمرّ التعامل مع المكونات المجتمعية وكأنها “ملفات أمنية” أو “مناطق ملتهبة” تحتاج فقط لمن يُخضعها بالسلاح. فما تحتاجه البلاد اليوم هو خطاب جامع، يعترف بالتنوع ويحتضنه، ويُعيد رسم العلاقة بين المركز والأطراف على أساس الاحترام والتوازن والشراكة في القرار.
ولعل الدرس الأبرز من هذه المواجهات أن سوريا لم تعد تحتمل “الدولة الطائفية” أو “المؤسسة التي تنحاز لطرف على حساب آخر”، فالدولة الحقيقية هي تلك التي يشعر فيها الكردي أن لغته مصانة، والعربي أن صوته مسموع، والدرزي أن كرامته محفوظة، والعلوي أن أمنه ليس مرهونًا بولاءٍ سياسي، والبدوي أن أرضه ليست منسية، والمسيحي أن وجوده ليس ديكورًا في حفلات الوحدة الوطنية.
ما حدث في السويداء ليس عزلاً للدروز عن المشهد السوري، بل تذكير صارخ بأن كل مكون يشعر بالتهميش أو الغُربة عن دولته، قد يلجأ لحمايته الذاتية، بصرف النظر عن التبعات. لكن الأمل ما يزال قائمًا، في دولة تُبنى بإرادة الجميع، ويشارك في رسم ملامحها الجميع، من أقصى الحسكة إلى درعا، ومن جبال الساحل إلى سهول الجزيرة.
إن المرحلة القادمة تتطلب أكثر من مجرد حكومة انتقالية وبيانات رسمية. تتطلب رؤية عميقة تعيد الاعتبار للإنسان السوري، وتُرسخ فكرة أن الدولة ليست سلطة فوقية، بل عقد اجتماعي يقوم على المواطنة والعدالة وتكافؤ الفرص.
نعم، لن تقوم لسوريا قائمة ما لم يتشارك الدرزي مع البدوي، والعلوي مع السني، والكردي مع التركماني، في إدارة الدولة وصناعة القرار، وتحمل أعباء الإعمار وبناء المؤسسات. لا مكان بعد اليوم للغة الغلبة أو محاولات الإقصاء، فكل صوتٍ يُقصى اليوم، سيعود صارخًا غدًا في ميادين الغضب والخذلان.
وحدها سوريا التي يتقاسمها الجميع، ويشعر فيها كل سوري بأنه شريك لا تابع، هي التي تستحق أن نحلم بها ونموت لأجلها.