مانشيتمقالات رأي

حتى لا يُلدغَ السوريون من تركيا مرتين

محسن عوض الله

على مدار أكثر من أربعة عشر عاماً من الثورة السورية، لم تكن أزمة سوريا في نظام الأسد وحده، ولا في الميليشيات التابعة لإيران أو حزب الله فحسب، رغم ما ارتكبوه من مجازر وجرائم. بل كانت الأزمة الأعمق في أولئك الذين زعموا أنهم يقفون إلى جانب الثورة، ويريدون إسقاط النظام ومنح السوريين الحرية والديمقراطية.

في الشهور الأولى من عمر الثورة السورية عام 2011، بدا أن النظام في أضعف حالاته. كانت سوريا تشهد لحظة تاريخية من التلاحم الشعبي العابر للطوائف والأعراق، وكان الزخم الثوري كفيلاً بإسقاط النظام خلال أشهر قليلة، كما حدث في تونس ومصر. لكنّ شيئاً ما كُسر.

ربما لم يكن النظام وحده من خذل الشعب السوري، بل إنّ من رفعوا شعارات دعم الثورة، خذلوها حين سعوا لتطويعها لمصالحهم الخاصة، وعلى رأس هؤلاء كانت الدولة التركية.

في البداية، تبنت تركيا موقفاً سياسياً وإعلامياً مؤيداً للثورة، وهو موقف بدا مشجعاً ويستحق التقدير في وقته. لكن سرعان ما تحولت تركيا من داعم إلى متورط، ومن شريك إلى متحكم. إذ فتحت حدودها على مصراعيها لدخول آلاف “الجهاديين” المتطرفين الإرهابيين من مختلف الجنسيات، تحت شعارات “نصرة الشعب السوري” و”الجهاد في سبيل الله”.

هذه الخطوة كانت القشة التي قصمت ظهر الثورة، حيث أعطت للنظام السوري فرصة ذهبية لإعادة تعويم نفسه أمام العالم باعتباره “يحارب الإرهاب”، بدلاً من أن يُحاسب على قتل المتظاهرين السلميين.

تحول الصراع من ثورة شعبية تطالب بالحرية، إلى مشهد فوضوي يعج بالجماعات المتطرفة التي وُلدت من رحم هذا التدخل التركي، وتناحرت فيما بينها، وانقسمت على أسس دينية وطائفية ومناطقية.

استثمر النظام هذه الفوضى جيداً، فحصل على ضوء أخضر غير معلن من المجتمع الدولي، الذي نفض يده من الملف السوري، وسمح بتدخل روسيا عسكرياً إلى جانب إيران والميليشيات التابعة لها.
وفي الداخل، قُسِّمَتْ الأراضي السورية بين عشرات الكيانات العسكرية. نشأت تنظيمات متشددة كبعض فصائل القاعدة وداعش، التي سيطرت على مساحات واسعة من سوريا، ومارست القمع بحق السكان، وانشغلت بصراعاتها مع باقي الفصائل، تاركة النظام يستعيد أنفاسه.

تركيا، في نهاية المطاف، لم تكتفِ بإفساح المجال للجماعات الجهادية، بل كشفت عن وجهها الحقيقي، حين تدخلت عسكرياً، واحتلت مساحات شاسعة من شمال سوريا.

 رُفِعَ العلم التركي في عفرين وجرابلس وسري كانيه، بينما تقلّص الحضور السوري حتى في المؤسسات المحلية.

ما حدث في سوريا لم يكن فقط صراعاً بين شعب ونظام، بل كانت ساحة مفتوحة لصراعات المصالح، وكان الثمن باهظاً. ملايين المهجرين، مئات آلاف الشهداء والجرحى، ومجتمع مفكك أنهكته الحروب والتدخلات.

لقد كانت الثورة السورية تحمل وعداً عظيماً بالتغيير، وكانت يمكن أن تلهم المنطقة كلها، لكنّها تحوّلت بفعل التدخلات الإقليمية، وعلى رأسها التركية، إلى مأساة كبرى دفع فاتورتها ملايين السوريين.

اليوم وبعد مرور أكثر من 4 أشهر على سقوط النظام، يجدر بالسوريين أن يعيدوا قراءة مشاهد الثورة السورية مرة أخرى ولكن بعيون أكثر نقداً، حتى لا تلدغ سوريا مرتين من تركيا.

على الإدارة السورية الجديدة أن تعي دروس ما قبل سقوط النظام، وتعرف طبيعية وأهداف من يدعون أنهم داعمون ومساندون لسوريا وثورتها حتي لا تُسلب الثورة من السوريين مرة أخرى، فلا يليق بسوريا أن تلدغ من تركيا مرتين.

كما لا يليق أن تتحول سوريا بتاريخها وعظمتها إلي مجرد ولاية عثمانية جديدة، وهو ما تسعى له تركيا وتخطط له بشكل واضح، حتى وإن لم تعلن ذلك بشكل علني..فهل يعي السوريين الدرس؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى