سوريا بين اللامركزية السياسية والمحاصصة

محسن عوض الله
بين سوريا والعراق نقاط تشابه واسعة، ليست فقط على مستوى التنوع العرقي والطائفي، بل في طبيعة الأزمات التي عصفت بالدولتين لعقود طويلة. كلا البلدين محكومان بفترات ممتدة بأنظمة استبدادية مغلقة، رفعت شعارات الوحدة والقومية والتحرر، لكنها في العمق تجاهلت الفسيفساء العرقية والدينية، وعاملتها باعتبارها خطراً أمنياً لا مكوّناً وطنياً أصيلاً يمكن أن يكون جزءاً من الهوية الجامعة لا خصماً لها في دمشق كما في بغداد، لم تكن السلطة ترى الكرد والسريان الآشوريين والتركمان وباقي المكوّنات إلا كهوامش في كتاب الدولة يمكن القفز فوقها باسم “الوحدة الوطنية” أو “الحزب القائد”. هذا الإقصاء صنع شرخاً عميقاً بين الدولة ومواطنيها، وحوّل قطاعات واسعة من المجتمع إلى مجرد أرقام بلا صوت ولا تأثير في معادلة الحكم والقرار.
هذا الإنكار المتراكم جعل الأرضية السياسية والاجتماعية في البلدين غير صالحة للاستمرار على الصيغة القديمة، فبات الانفجار مسألة وقت لا أكثر، وجاءت الحروب والانتفاضات والتدخلات الخارجية لتكشف هشاشة البنيان الذي بُني لعقود على الإقصاء واحتكار السلطة وإلغاء الآخر.
التغيير بدأ في العراق بعد تدخل دولي أطاح بنظام البعث، وفتح الباب أمام عملية سياسية جديدة، أسس هذا التغيير على فكرة أن جميع المكوّنات العرقية والطائفية يجب أن تكون ممثلة في السلطة، عبر نظام محاصصة يوزّع المناصب العليا والرئاسات الثلاث والحقائب السيادية بين الشيعة والسنّة والكرد وباقي الأطراف، في محاولة لصناعة توازن يمنع عودة الاستفراد بالحكم، ويطمئن المكوّنات التي دفعت أثماناً باهظة في حروب وصراعات سابقة.
على مدار أكثر من عشرين عاماً، شهد العراق ست انتخابات برلمانية أسفرت عن تشكيل ست حكومات وتعيين أربعة رؤساء، جميعهم ضمن صيغة المحاصصة العرقية والمذهبية التي تحوّلت مع الوقت إلى قاعدة شبه ثابتة في توزيع السلطة والنفوذ، رغم كل الانتقادات الموجّهة لهذا النظام.
نظام المحاصصة ليس النموذج الديمقراطي الأمثل، ولا الحلم الذي تطمح إليه شعوب خرجت تنشد الحرية والعدالة وبناء دولة مواطنة، لكنه في لحظة تاريخية معينة كان خياراً مناسباً، أو بمعنى أدق “أنسب الخيارات السيئة”، في دول تعيش على وقع تنوّع عرقي ومذهبي وديني حاد، وتاريخ طويل من انعدام الثقة بين المكوّنات وخشية متبادلة من عودة الاستبداد باسم طائفة أو قومية أو دين.
المحاصصة، ولو بنسبة محدودة، ضمنت عدم سيطرة عرق أو طائفة أو حزب على مقاليد الدولة، ومنعت احتكار السلطة تحت يافطات قومية أو دينية أو مذهبية، وجعلت من المستحيل تقريباً أن ينفرد طرف واحد بكل شيء كما كان في العهود السابقة. لكنها في الوقت ذاته كرّست منطق “المكوّن” على حساب منطق “المواطن”، وحوّلت جزءاً من السياسة إلى سوق مغلق لتبادل الحصص والمناصب بين زعماء الطوائف.
الوضع في سوريا أكثر تعقيداً. هناك حالة تشكك كبيرة من جانب معظم، إن لم يكن كل، المكوّنات العرقية والدينية في الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، خاصة مع تاريخه السابق كأحد القيادات الجهادية، ومع ذاكرة سورية مثقلة بتجارب مريرة مع الفصائل المتشددة وسلوكها في المناطق التي سيطرت عليها.
فشل الشرع، بعد عام تقريباً من سيطرته على السلطة في دمشق، في طمأنة شعوب سوريا، بل زاد مخاوفهم، خاصة بعد أحداث الساحل السوري واللاذقية وما رافقها من اتهامات وانتهاكات وتعاطٍ أمني وعسكري أعاد إلى الأذهان صورة “الحاكم المسلّح” أكثر مما قدّم نموذج “الرئيس الانتقالي” الساعي لبناء عقد وطني جديد.
سوريا ما تزال منقسمة بين ثلاث حكومات ومناطق نفوذ، ومازالت هناك مناطق يُحظر على أجهزة حكومة دمشق دخولها، وحدود خارج السيطرة، وفصائل وقوى محلية وإقليمية تتحكم بمفاصل عديدة من الجغرافيا والقرار. هذه الحالة من الترقب والتشكك تهدد استقرار أي دولة، خاصة في ظل عجز النظام عن إجراء انتخابات برلمانية شاملة، أو فرض سيطرته على المنافذ والحدود، أو تقديم رؤية واضحة لمستقبل الحكم وشكل الدولة وعلاقة المكوّنات بعضها ببعض، وعلاقتها بدمشق.
في هذا المشهد، تبدو المحاصصة خياراً مثالياً لمرحلة قد تكون انتقالية، لاستعادة ثقة شعوب سوريا والحفاظ على وحدة أراضيها، وضمان مشاركة جميع مواطنيها في السلطة دون تمييز ديني أو مذهبي أو قومي. المحاصصة ليست غاية بقدر ما هي أداة عبور، تسمح لكل مكوّن أن يضمن مقعده في مركب الدولة الجديدة، وتمنع في الوقت نفسه أن يستأثر طرف واحد بمفاصل الحكم.
أخشى ما أخشاه أن تتحول المحاصصة من مجرد جسر عبور إلى أرض وطن، وأن يجري ترسيخها دستورياً وسياسياً بما يجعل من كل استحقاق انتخابي معركة طوائف لا منافسة برامج، ومن كل تعديل حكومي بازاراً لتوزيع الغنائم لا خطوة لإصلاح الإدارة وبناء مؤسسات قوية.
المعادلة وإن بدت صعبة، فهي ليست مستحيلة. سوريا بما تملكه من قدرات وعقول وطنية في الداخل والمهجر قادرة على صياغة تجربتها الخاصة التي تمنح كل المكونات حقوقها، وتتلافى عيوب التجربة العراقية أو سيئات نظام المحاصصة بشكل عام.
الهدف ليس تكرار الصيغة العراقية حرفياً، بل استلهام الفكرة الجوهرية لا استقرار من دون تمثيل حقيقي وملموس لكل المكوّنات في السلطة، ثم البناء على ذلك باتجاه دولة مواطنة تذوب فيها الحصص لصالح الحقوق المتساوية. والتي تتمثل في دولة لا مركزية سياسية تضمن حقوق الجميع في سوريا موحدة ذات سيادة.
وهذا التجربة ستكون جسر عبور نحو دولة أكثر عدلاً وشمولية، بدلاً من إعادة إنتاج الصراعات القديمة تحت شعارات جديدة.




