تركـيا واسـ.ـتحقاقـ.ـات سـ.ـحب “الكـ.ـردستانـ.ـي” لقـ.ـواته
بقلم: محمود علي
عملية سحب حزب العمال الكردستاني قواته من باكور/ شمال كردستان وتركيا إلى مناطق الدفاع المشروع في إقليم باشور/ جنوب كردستان، أحدثت صدمة كبيرة لدى الأوساط المحلية والإقليمية والدولية، ونقل القضية الكردية من واقع قضية حلها مؤطَّر بالبندقية فقط، إلى وضعها على سكة الحل الحقيقية، كإحدى ضرورات واستراتيجيات حلول السلام في المنطقة والعالم، لطالما شكلت أرقاً لجميع الأطراف الداخلية والخارجية، ويمكن القول إنها دخلت على أجندة القوى العظمى بكل زخمها وقوتها.
حقيقةٌ ساطعةٌ برهنت عليها حركة التحرر الوطنية الكردستانية من خلال العديد من خطواتها المدروسة بكل تفاصيلها، والتي بدأت مع إعلان القائد الكردي “عبد الله أوجلان” عن مشروع “السلام والمجتمع الديمقراطي” في فبراير/ شباط الماضي. فالكل على المستوى الوطني والشعبي الكردي، كان يجد في الكفاح المسلح والثورة طريقاً وحيداً لحل القضية الكردية، في وقت لم يكن للكرد “حلفاء غير الجبال”. غير أن التراكم النضالي للحركة طيلة أكثر من نصف قرن؛ كسر التابوهات المتعارف عليها في الأوساط الكردية والخارجية. الإنجاز الأول الذي حقّقته بندقية العمال الكردستاني وتضحية مقاتليه وشهدائه وقياداته؛ أنها أوصلت تركيا على مستوى النخب السياسية والثقافية وحتى المجتمعية، إلى قناعة أن إبادة الكرد وإفناء القضية الكردية بقوة السلاح لم يحقق أي نتائج، فلم تجد من بد إلا التفكير بحلها سلمياً وسياسياً، بعد أن قاد مشروع الحل الديمقراطي القائد “أوجلان” بكل جرأة وشجاعة، وهو بذلك يحاول أيضاً إنقاذ تركيا من أزماتها البنيوية التي تشكلت بفعل إنكارها للقضية الكردية والتعامل معها بمنطق القوة العسكرية والأمنية الصرف.
خطوة سحب “الكردستاني” قواته من باكور كردستان وتركيا لا يمكن النظر إليها كمبادرة وإعلان سياسي، بل تمثل في جوهرها تغييراً استراتيجياً في أدوات الصراع ومفاهيمه، وتأتي في سياق تغيير براديغما الحركة، اشتغل عليها القائد “أوجلان” لسنوات طويلة، تمكَّن خلالها من تقديم رؤية وقراءة معمقة وشاملة للقضية الكردية بكل أبعادها التاريخية والسياسية والمجتمعية، والخروج بمشروع حل يتواءم مع المتغيرات الدولية السريعة، ويطرح حلولاً واقعية لها، يجنب حركته مصيراً كما حصل للعديد من حركات التحرر الوطنية في المنطقة والعالم. رؤيته الثاقبة أنقذت الحركة من أن تغدو هدفاً، بل حوّلها إلى لاعب رئيسي في لعبة التوازنات الإقليمية والدولية، وأثبت للقاصي والداني أن الحركة تجيد اللعبة السياسية، طالما أنها تملك كل هذا الزخم الشعبي والأدوات النضالية في الداخل والخارج، وتستند إلى قوة عسكرية وسياسية فاعلة، وهي بمجموعها تشكل أوراقاً ضاغطة تستطيع أن تحاور وتفاوض بها كل الأطراف وليس تركيا فقط.
مبادرة سحب القوات يمكن قراءتها أنها جاءت من موقع القوة وليس الضعف، ولم تكن الحركة قوية في أي وقت من الأوقات مثلما هي الآن، عسكرياً وسياسياً وتنظيمياً، ولديها القدرة على خوض الكفاح المسلح لعقود أخرى، إلا أن مسار الصراع العالمي قد أفرز معطيات جديدة، كما أوردها القائد “أوجلان” في مانيفيستو “السلام والمجتمع الديمقراطي”، والتقطت الحركة لحظة التغيير المناسبة، لتنسجم مع التطورات العالمية، وتعيد بناء نهجها واستراتيجيتها وإيديولوجيتها، دون أن تقدّم المزيد من الخسائر، وتدخل كطرف فاعل في صنع التغييرات كمؤثر فيها وليس متأثر بها فقط. هذه الحقيقة يجب فهمها بكل أبعادها الفكرية والإستراتيجية، كيلا يقع أحد في مغالطات تحليلية قد تسيء فهم جملة الخطوات التي أقدمت عليها الحركة.
سياسياً؛ وضعت المبادرة تركيا في مأزق، باتت مضطرة لتنفيذ استحقاقات مشروع “السلام والمجتمع الديمقراطي”، وأوّلها إطلاق سراح المعتقلين وعلى رأسهم القائد “أوجلان”، كما ورد في بيان انسحاب القوات، إضافة إلى البدء بتعديل الدستور التركي، والاعتراف بالكرد كقومية ثانية في البلاد، وإجراء إصلاحات ديمقراطية، من شأنها إشاعة جو من الديمقراطية والبدء بالخطوات العملية لحل القضية الكردية. لا يمكن ربط مسألة المشروع الذي طرحه القائد “أوجلان” والمبادرات التي أقدمت عليها الحركة في الخارج بجملة من التغييرات السياسية البسيطة، وهي ليست نتاج الأزمات الراهنة والآنية التي تمر بها تركيا، مثل التضخم وتراجع قيمة الليرة التركية، إضافة إلى محاولة أردوغان استمالة الكرد والحركة إلى جانبه في صراعه السياسي على السلطة مع المعارضة، بل هي نتاج كفاح طويل للحركة والشعب الكردي، وباتت قضية ضاغطة على تركيا كدولة ونظام ومجتمع، لإيجاد حلول دائمة، تغير من صورة تركيا بالكامل. فما طرحه ويعمل عليه القائد “أوجلان” والحركة، يتمثل في “الاندماج الديمقراطي”، يتجاوز الحالة الإلحاقية والقسرية في الضم، ليكون الكرد جزءاً مؤسساً وفاعلاً في بنية الدولة، كما حصل في العهود السابقة، وأي تصور آخر خارج هذا المفهوم قد يعرقل مشروع السلام الديمقراطي والتكامل بين الشعوب داخل جغرافية تركيا وحتى خارجها أيضاً. لا مجال للتصورات والرؤى الانتهازية في هذا الموضوع المصيري، وأي محاولة من جانب الدولة للتهرب من متطلبات نقل المشروع من الواقع النظري إلى العملي، قد يعرضها هي لوحدها إلى العزلة. فبات جلياً أن أي تفكير من جانب الدولة للعودة إلى التعامل مع القضية الكردية وفق منطق القوة العسكرية، قد تجد نفسها وحيدة، مقابل الحركة ومعها الأطراف التي تيقنت أن الحركة جادة في مسعاها لإرساء السلام في تركيا والمنطقة.
لقد سقطت الفلسفة “الذرائعية” التي طالما كانت تركيا تتمسك بها في ممارسة حرب الإبادة الثقافية ضد الشعب الكردي، وأي إصرار من جانب أردوغان على تجاهل المتغيرات سيضعه أمام مأزق لا يستطيع الخروج منه، من خلال فقدان السيطرة على المشهد السياسي والاقتصادي، خاصة أنه يتعرض لمعارضة شديدة من قبل المناوئين له. وظهرت بعض الأصوات القوية داخل حزبه تطالبه بالاستجابة لنداء القائد “أوجلان” والحركة، والتعامل معه بإيجابية، معتبرة أنه الحل الوحيد الذي يمكن أن ينقذ تركيا من أزماتها المتلاحقة. وإبداء أردوغان مقاربة من المشروع الديمقراطي المصيري لتركيا وفق منطق تعزيز قوته في الداخل وتوظيفه لخدمة مصالحه الانتخابية، من المؤكد أنها ستزيد من عزلته الداخلية والخارجية وتُضعف موقع تركيا إقليمياً.
لقد حققت الحركة إنجازاً كبيراً من خلال جملة التغييرات في استراتيجيتها الكفاحية خلال الفترة الماضية، وتمكنت الاستجابة للتحولات الكبرى في النظام العالمي الجديد، وتوظيفها في دمج الكرد في هذا النظام، ومن أوسع الأبواب، ولن يكون بمقدور تركيا وآلتها الديماغوجية تهميش الكرد من المشاركة بشكل فاعل في الترتيبات الجارية في المنطقة، بعد أن أصبحوا جزءاً منها، إن كان في باكور، باشور أو روجآفاي كردستان، وهي تدرك جيداً أن أي محاولة للتفكير خارج سياق قبول الكرد كجزء من معادلة الحل، قد تجد نفسها أمام تهديدات وجودية لكيانها المؤسس على الإنكار والإبادة، وأنه يتحتم عليها في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة أن تعيد النظر في ماهية “الدولة” والعقد الاجتماعي المكوّن لها، وتشرع ببناء دولة ديمقراطية تحتضن الكرد وجميع الإثنيات في تركيا.
المعادلة الجديدة التي فرضها انسحاب “الكردستاني” لقواته، أنه لن يكون الكرد بمفردهم في مواجهة تركيا، إن فشلت عملية السلام، حيث يجد الكل أن تركيا بذهنيتها القوموية – الإبادوية المطعَّمة بـ”الإسلاموية” الإخوانية باتت عبئاً على النظام العالمي الجديد الجاري تشكيله بشكل متسارع في منطقة الشرق الأوسط، حيث يجري رسم خرائط جديدة في المنطقة تنسف الخرائط السابقة المرسومة من قبل “سايكس – بيكو” و”لوزان”، وقد تجد نفسها في معترك صراع مع قوى الحداثة الرأسمالية، بعد أن كانت في الماضي جزءاً منها، إن لم تبدأ بخطوات جادة نحو حل القضية الكردية وفق مشروع “السلام والمجتمع الديمقراطي”، وقد تتحول من حليف إلى خصم، وهو ما استدركه زعيم حزب الحركة القومية “دولت باهجلي”، منذ أكثر من عام.
الكرة الآن في الملعب التركي، والكل بانتظار خطواتها في بناء الثقة بين الطرفين، بالتزامن مع ضرورة اتخاذها قرارات جريئة تقابل قرارات القائد “أوجلان” والحركة، وألا تعمل وفق مقولة “خطوة إلى الأمام خطوتان للوراء”.

