سوريا بين مـ.ـأزق الداخل وضـ.ـغط الخارج: سـ.ـلطة الأمر الـ.ـواقع على حـ.ـافة الانهـ.ـيار

د. فرات ناصر الناصر منذ سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول 2024 وصعود أحمد الشرع إلى واجهة المشهد السياسي بوصفه رئيس سلطة الأمر الواقع المؤقتة في دمشق، يعيش السوريون لحظة تاريخية متناقضة: لحظة الخروج من حرب أهلية استمرت أكثر من عقد ونصف، وفي الوقت ذاته الانزلاق إلى أفق غامض تحكمه صفقات الخارج وضغوطات الداخل.
الشرع، الذي يوصف بأنه قيادي جهادي سابق، وجد نفسه فجأة في موقع “الرئيس الانتقالي”، لكن من دون امتلاك أدوات الدولة ولا شرعية التمثيل الشعبي. وهذا ما بدا واضحاً في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وقد أصبح أول مسؤول سوري يتحدث من هذا المنبر منذ 1967. لكنه يتحدث اليوم بصفته ممثلاً لسلطة أمر واقع، لا لدولة سيادية.
في نيويورك، حذر الشرع من أن التأخر في التوصل إلى اتفاق أمني مع إسرائيل قد يفتح الباب أمام اضطرابات جديدة في الشرق الأوسط. تصريحاته عكست شعوراً بالقلق أكثر منه ثقة بالقدرة على الفعل، إذ قال بوضوح: “نحن نخاف من إسرائيل وليس العكس”.
تزامناً مع ذلك، تتواصل الانتهاكات الإسرائيلية للأجواء السورية، والتوغلات العسكرية في الجنوب تحت ذريعة حماية مصالح الأقلية الدرزية. وتبدو إسرائيل وكأنها تراهن على سياسة “الضغط البطيء”، عبر مشروع “خفض التصعيد” في الجنوب بوساطة الملياردير الأميركي توماس باراك، حيث يتحول القصف والتوغل من يومي إلى أسبوعي. هذه السياسة ليست سوى محاولة لإبقاء اليد الإسرائيلية مطلقة في الجغرافيا السورية، بانتظار مزيد من التنازلات.
الشرع رفض الخوض في أي نقاش حول تقسيم سوريا، لكنه أقر بأن الضغوط على الأردن، وارتدادات أي تقسيم على العراق وتركيا، تجعل من هذا السيناريو كارثياً. وهو بذلك يذكّر بترابط أزمات المنطقة، لكنه يغفل أن غياب شرعية السلطة في دمشق هو ما يجعل البلد عرضة لتجاذبات الخارج.
حين كان الشرع يجول بين مراكز الأبحاث الأميركية مثل “معهد الشرق الأوسط”، كانت الأخبار القادمة من الداخل السوري تحمل نذر مجازر في ريفي حماة وحلب. مصادر محلية تحدثت عن حصار شبه كامل لمناطق سلحب والغاب وحورات عمورين والنهر البارد، مع بث تهديدات علنية عبر مكبرات الصوت من قبل مجموعات مسلحة تتوعد بـ”سبي النساء وقتل الأطفال”.
الأخطر أن روايات الأهالي أشارت إلى توزيع ملابس تحمل علم “النجمتين” على شبان محليين بهدف تصفيتهم لاحقاً وتصويرهم على أنهم “فلول للنظام” هاجموا حواجز مسلحة. هذا النمط من صناعة المبررات للمجازر المنظمة يعيد إلى الأذهان أسوأ فصول الحرب الأهلية. هنا، تبدو وزارة دفاع السلطة المؤقتة في دمشق عاجزة عن ضبط المشهد أو حماية المدنيين، لتتجلى مرة أخرى إشكالية “سلطة بلا سيادة”.
في خضم ذلك، أعلنت وكالة “سانا” عن لقاء جمع الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، بحضور السيدة الأولى ميلانيا ترامب. اللقاء هو الثاني بين الطرفين بعد اجتماع سابق في الرياض. لكنه لم يغير في جوهر الموقف، السلطة في دمشق ما زالت تقدم التزامات للغرب دون أن تحصد بالمقابل اعترافاً بشرعيتها.على صعيد آخر، أعلنت سلطة الأمر الواقع انضمامها رسمياً إلى التحالف الدولي ضد “داعش”.
هذا الانضمام يأتي بعد أن كان شرطاً أميركياً لرفع العقوبات. المفارقة أن الفصائل المسلحة عام 2014 رفضت الانضمام للتحالف خوفاً من تكريس دور وحدات حماية الشعب الكردية كشريك وحيد لواشنطن، باستثناء بعض الشخصيات مثل العقيد عبد الجبار عكيدي. أما اليوم، فقبول السلطة المؤقتة بهذا الشرط يعكس حرصها على البقاء أكثر مما يعكس رؤية وطنية جامعة. فـ”داعش” لم يعد يحتل مناطقها ولا يهدد سلطتها.
تتعامل إسرائيل مع الشرع بمنطق “من تنازل عن هذا سيتنازل أكثر”، فيما ينظر الأميركيون إليه كأداة مؤقتة لتنظيم ملفات ما بعد الأسد. أما في الداخل، فإن فقدان السيطرة على الأرض، وتصاعد تهديدات المجازر، وتشرذم الفصائل المسلحة، كلها مؤشرات على أن هذه السلطة لا تمثل الشعب السوري بقدر ما تمثل بقاء القائمين عليها.
من منظور تحليلي أعمق، يمكن القول إن أزمة الشرع وسلطته المؤقتة تعكس إشكالية “الدولة المفقودة”، كيان حاضر في المحافل الدولية، لكنه غائب عن حماية مجتمعه. وهنا يبرز السؤال التالي، كيف يمكن لسوريا أن تعيد بناء شرعية سياسية وطنية مستقلة عن الخارج؟
الحل لا يكمن في مفاوضات أمنية جزئية مع إسرائيل، ولا في الانخراط التكتيكي في تحالفات دولية. بل يتطلب بناء عقد اجتماعي جديد يربط بين مكونات المجتمع السوري كافة، ويعيد الاعتبار لشرعية الشعب لا لشرعية السلاح. إعادة الاعتراف بسوريا كدولة تبدأ من الداخل، من حماية المدنيين، وضمان وحدة الأرض، وصياغة رؤية وطنية مستقلة.
وإلى أن يحدث ذلك، ستظل سلطة الأمر الواقع في دمشق محاصرة بمفارقة قاتلة، تعترف بها القوى الدولية حين تحتاجها، وتتجاهلها حين تستغني عنها، فيما الشعب السوري يظل رهينة الفوضى والضياع.