سوريا على مفـ.ـترق النـ.ـار: من صـ.ـراع الوكـ.ـلاء إلى لحظة الحقـ.ـيقة الوطنية

د. فرات ناصر الناصر
تشهد الساحة السورية هذه الأيام توتراً بالغاً، يضع البلاد أمام منعطف خطير قد يحدد ملامح مستقبلها السياسي والاجتماعي لسنوات مقبلة. فالمشهد السوري، المنقسم بين سلطة الأمر الواقع في دمشق من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية من جهة أخرى؛ يتشابك اليوم مع صراعات إقليمية ودولية متداخلة، تترجم نفسها ميدانياً في حلب وريفها الشرقي، لتجعل من الشمال السوري مركز اختبار لتوازنات النفوذ بين القوى المحلية والخارجية.
منذ هروب النظام السابق، سعت سلطة الأمر الواقع في دمشق إلى تقديم نفسها كدولة قادرة على إعادة إنتاج النظام السياسي والاجتماعي، غير أن الوقائع الميدانية والسياسية تكشف هشاشتها المتزايدة. فحادثة تأخير إلهام أحمد، رئيسة دائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية، عند الحدود السورية، وما تبعها من تعثر استقبالها في دمشق، ليست مجرد تفصيل إداري، بل إشارة إلى انسداد مسارات الحوار، وتعبير عن مأزق عميق تعيشه تلك السلطة المؤقتة التي فقدت القدرة على إدارة التوازنات الداخلية.
هذا الانسداد السياسي انعكس مباشرةً على المشهد العسكري في حلب. فقد بدأت الفصائل التابعة لوزارة دفاع الجولاني الإرهابية، والمدعومة بشكل مباشر من تركيا، برفع سواتر ترابية لعزل أحياء الشيخ مقصود والأشرفية. ومع التمركز داخل المباني السكنية غير المكتملة في منطقة الليرمون، ودفع الآليات الثقيلة باتجاه الميدان، بدا واضحاً أن المعركة لم تعد احتمالاً بعيداً بل واقعة تنتظر لحظة الاشتعال. في المقابل، أعلنت قوات حماية الحي وقوى الأمن الداخلي حالة استنفار غير مسبوقة، مع تعزيز دفاعاتها الداخلية في الشيخ مقصود والأشرفية، وتحضير خطط للتعامل مع الطائرات المسيّرة، فضلاً عن التخوف من نشاط الخلايا النائمة المرتبطة بجهاد عيسى الشيخ، الملقب أبو أحمد زكور، أحد أبرز أدوات النفوذ التركي.
لكن ما يجري في حلب لا يمكن فصله عن الصراع الأكبر على النفوذ بين أنقرة والرياض. فالمملكة العربية السعودية التي دعمت سابقاً هيئة تحرير الشام، رفعت غطاءها عن الجولاني بعد ارتباطه العلني والضمني بأوامر الرئيس التركي رجب أردوغان. الأخير لم يكتف بفرض أبو أحمد زكور نائباً للجولاني، بل أوعز له بتصفية قادة محسوبين على السعودية، مثل أبو الدرداء الإيراني، بذريعة الانتماء لتنظيم الدولة. ردت الرياض بسحب غطائها السياسي عن الهيئة، فيما دفع الجولاني عناصره، بتشجيع تركي، لتنظيم مظاهرات مسيئة للمملكة. ومع تصريح أردوغان الحاد بأنه “لن يسمح بتكرار ما جرى سابقاً في سوريا”، بدا المشهد وكأنه إعادة إنتاج لصراع على زعامة الأمة السنية، بدماء السوريين وعلى أرضهم.
المُلفت أن هذا الصراع بين الوكلاء ترافق مع تصعيد ميداني على أكثر من جبهة، فقد استهدفت غارات إسرائيلية مواقع قرب سفح قاسيون وريف دمشق، فيما نفذت طائرة مسيّرة للتحالف الدولي عملية دقيقة ضد قيادي فيمَ يسمى تنظيم “أنصار الإسلام” بريف إدلب، هذه التطورات، إلى جانب الحشود في ريف حلب الشرقي باتجاه سد تشرين ودير حافر، تكشف عن خريطة معقدة تضع سوريا في قلب تجاذبات إقليمية ودولية يصعب التحكم بمساراتها.
غير أن الداخل السوري نفسه يشهد تدهوراً متسارعاً يعكس فقدان سلطة الأمر الواقع في دمشق القدرة على الإمساك بالمشهد. الانفلات الأمني يتجلى في جرائم كالتي شهدها وادي النصارى بريف حمص، وفي اشتباكات عشائرية متكررة في دير الزور. على المستوى الاجتماعي، تتكرر الاعتداءات على الأطباء في دمشق، واحتجاجات العمال في حماة، بينما تخرج أصوات معارضة تنتقد سلطة الأمر الواقع باعتبارها عاجزةٌ عن توفير أبسط مقومات العيش. تصريحات مسؤولي تلك السلطة المؤقتة، التي تربط هذه الأحداث بمؤامرات خارجية تستهدف العملية الانتخابية؛ لا تعدو كونها محاولة للهروب من مواجهة الأزمة البنيوية التي تعصف بالبلاد.
هذا المشهد المأزوم ترافق مع تحولات في التحالفات، فثمة مؤشرات على تصدع داخلي في هيئة تحرير الشام، وعودة بعض قادة الجيش الحر إلى الواجهة، فضلاً عن تزايد الحضور الإيراني بواجهة عراقية، في وقت بدأت فيه تركيا انفصالاً تدريجياً عن الجولاني رغم استمرار استخدامها له كورقة ضغط. وفي المقابل، تشهد الساحة الدولية إعادة تشكيل لمحاور جديدة، مع اتصالات بين روسيا والولايات المتحدة وأطراف عربية تبحث عن صيغة انتقال سياسي في سوريا، بعيداً عن مشاريع الأفراد والإمارات المعزولة.
في خضم هذا، تكشف الفضائح المتصلة بسلطة الجولاني هشاشة بنيتها. فالتقارير التي تحدثت عن إنفاق أكثر من 22 مليون دولار من أموال التبرعات لتمويل زيارته إلى نيويورك، لم تقتصر على كشف الفساد المالي، بل أبرزت محاولة لإعادة إنتاج صورة “الملك الجديد” على حساب معاناة السوريين، في مشهد يكرس الديكتاتورية تحت غطاء ديني وعسكري.
على الضفة الأخرى من المشهد، تبدو قوات سوريا الديمقراطية في موقع أفضل نسبياً، بقدرتها على حشد ما يزيد عن عشرات الآلاف من المقاتلين، عدا الاحتياط، وتحضير خطط لمعارك استنزاف طويلة الأمد. ومع رصد تحركاتها في ريف حلب الشرقي نحو تل عرن وتل حاصل، يبرز احتمال فتح جبهة جديدة لتخفيف الضغط عن الشيخ مقصود والأشرفية. بل إن بعض المراقبين يرون أن أي مواجهة كبرى في شرق الفرات قد تكون بوابة لحل سياسي شامل، يعيد رسم التوازنات الوطنية.
المجتمع الدولي لا يقف بعيداً عن هذه المعادلة. الولايات المتحدة جددت حالة الطوارئ الوطنية الخاصة بسوريا، معتبرة الملف تهديداً للأمن القومي، فيما تؤكد تركيا رفضها أي تقسيم للبلاد مع مراقبة ملف دمج قوات قسد في الجيش السوري الموالي للجولاني. وفي السياق ذاته، جرت محادثات سورية – لبنانية حول ملف المعتقلين والمفقودين، وبدأت لجنة التحقيق الدولية عملها الميداني في السويداء بعد مجازر تموز.
هكذا، تبدو سوريا اليوم في قلب عملية إعادة تموضع كبرى، إقليمياً ودولياً، تتصدع فيها المحاور التقليدية وتنهار شرعية سلطات الأمر الواقع المتعددة. سلطة الجولاني تتآكل من الداخل، وسلطة الأمر الواقع في دمشق عاجزة عن الإمساك بخيوط اللعبة، فيما يزداد الانقسام بين صراعات داخلية مفتوحة وتجاذبات إقليمية ودولية متسارعة. أمام هذا الانهيار المتعدد المستويات، يبقى الحل الوطني الجامع – عبر عقد اجتماعي جديد يعيد للسوريين وحدتهم وحقهم في تقرير مصيرهم – هو المخرج الوحيد من دائرة الدم والوصاية الخارجية. أما الرهان على وكلاء الخارج، فلن يكون سوى إعادة إنتاج للضياع المستمر.
وبذلك، يصبح السؤال المركزي اليوم: هل يستطيع السوريون، بكل مكوناتهم، أن يلتقطوا جرس الإنذار قبل أن يُحسم مستقبلهم مرة أخرى على موائد الآخرين؟