مستقبل علاقات الدول الفاعلة في سوريا

كاردوخ بيكس
مع مرور كل يوم من الأزمة السورية؛ تتضح بعض المواقف، وتتغير بعضها، وتتصدر بعضها المشهد، متأثرة بالمتغيرات على الساحة الدولية، البعض سعى خلف مصالحه الاقتصادية، والبعض يعملون لأجندات استراتيجية لضمان كينونتها ومستقبلها، والبعض الآخر لديه أطماع توسعية وأحلام أكل عليها الدهر وشرب.
يتزايد الشرخ بين دول وقوى متسلطة عسكرياً على المشهد السوري على حصتها من توزيع (الكعكة السورية)، والكل ينظر ويطمح بالقسم الأكبر والمؤثر والاستراتيجي.
وهنا قد تتداخل مصالح البعض، وقد تضاد مع مصالح أخرى، وهذا ما يجعل من تنفيذها أو تمريرها محفوفاً بالمخاطر، وقد تكون في بعض الأحيان على حساب استمرارية تلك الدولة بشكلها الحالي.
في سوريا تدخلت العديد من الدول الإقليمية والدولية، منها للضغط على جهات بعينها لتمرير مشاريعها سواء كانت سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، البعض منها فشلت والبعض الآخر صدم بجدار صلب حال دونها، ألا وهي الخريطة الجديدة للشرق الأوسط. ما دفع بعض الدول للبحث عن بدائل لمشاريعهم بمشاريع جديدة.
ولهذه الأسباب ما زال الصراع في سوريا مستمراً، جاعلين منها ساحة صراع لكسر العظم، وتصفية الحسابات الدولية لتمرير أجنداتها، وتنفيذ مشاريعها.
النظام السوري البائد استعان بإيران وروسيا لحمايته، وضمان استمراريته، وهنا إن لم تكن روسيا تعي جيداً ما يخطط لسوريا ضدها اقتصادياً؛ لما كانت قد تدخلت لتحمي نظاماً قتل وشرد ونزح الملايين من شعبه.
مشروع خط الغاز القطري، الذي كان مخطط له من قبل تركيا وقطر للمرور عبر الأراضي السورية إلى تركيا إلى أوربا كان السبب الأهم للموافقة الروسية على التدخل في سوريا، وسد الطريق على هذا المشروع الذي يهدد خط غازها الأول الذي يمد أوربا بالغاز المسال، عداك عن أنها الدولة التي تصل عبرها روسيا إلى المياه الدافئة على شواطىء البحر المتوسط، ما خلق شرخاً وعداوة، حتى وإن كانت ضمنية بينهم، أي بين روسيا من جهة وبين قطر وتركيا من جهة ثانية.
إيران أيضاً تدخلت لحماية نظام الأسد، الذي وافق ودعم مشروعها (الهلال الشيعي) الذي يربط إيران بلبنان وسواحل البحر المتوسط، لتستطيع إيصال الدعم الإيراني لميليشيا حزب الله اللبناني، لتكون ورقة ضغط على إسرائيل تهددها بين الحين والآخر، ولتكون ورقة تفاوض بيد إيران في أي مفاوضات مع الغرب وأمريكا، تتعلق بملفها النووي.
قطر بمالها السياسي، ودعمها للإسلام السياسي وضعت يدها بيد تركيا، عليها التمويل وعلى تركيا التدريب والدعم والتدريب وتسهيل المرور، لتجعل من سوريا مرتعاً لما هب ودب من الإسلاميين الراديكاليين الجهاديين، ليتمكنوا من السيطرة على سوريا، لتمرير خط غازها عبر الأراضي السورية إلى تركيا ومنها إلى أوربا.
بعد سنوات، وصرف مليارات الدولارات، أدركت قطر إن تركيا تريد مصلحتها فقط، وخاصة بعد العمل على مد خط غاز أذربيجان عبر أرمينيا من معبر زنزور إلى تركيا ومنها إلى أوربا، لتبقي قطر خارج اللعبة السورية نوعاً ما اقتصادياً.
أمريكا تتحكم بزمام الأمور في سوريا عبر التحالف الدولي التي تقوده ضد الإرهاب، وتقوم بزيادة عدد جنودها، وتدعم عسكرياً، كما تدعم حلفاءها، قوات سوريا الديمقراطية، عبر مختلف مؤسساتها، وباتت هذه القوات رقماً صعباً في المعادلة السورية، ولا يمكن تمرير أي قرار جدي يتعلق بالشأن السوري دونهم، كما لم يعد ممكناً تهديدهم أو شن هجمات عليهم في ظل المتغيرات الدولية المتسارعة في المنطقة.
إسرائيل كانت تراقب بشكل براغماتي ما يجري على حدودها الشمالية (من الجولان) حتى سقوط نظام الأسد، لتبدأ تحركها لمنع المجاميع الإرهابية من السيطرة على سلاح الجيش السوري، بدأت بقصف مستودعات الأسلحة والذخيرة، واجتاحت الجنوب السوري لفرض منطقة آمنة هناك، بينما يعمل جناحها السياسي على انضمام الدول العربية والخليجية للاتفاقات الإبراهيمية، والتطبيع مع إسرائيل، هذه من جهة ومن جهة أخرى عملت جاهدة على منع تركيا من إقامة أية نقطة أو مركز دعم عسكري في الجنوب السوري، وعلى الأراضي السورية إلى حد ما، للتحضير لمشروعها الاستراتيجي، مشروع خط سكك حديد السلام، الذي ينطلق من الهند إلى الخليج العربي عبر السعودية مروراً بالأردن إلى ميناء حيفا وصولاً إلى قبرص وأوربا، ضاربة عرض الحائط مشروع تركيا في طريق التنمية الذي يربط الخليج العربي عبر العراق بتركيا إلى أوربا. ما أثار استياء تركيا كونها بالأساس تعاني من أزمة اقتصادية خانقة تزداد يوماً بعد يوم.
هنا بدأت لعبة التحدي وكسر العظم بين إسرائيل وتركيا التي أدركت بأن مراكز القرار والسيطرة في الشرق الأوسط قد تغير، وإن التحضير لها لا يستثني تركيا، فبدأت تركيا تتحرك باتجاه قبرص الشمالية، لترسل الآلاف من جنودها إلى هناك لتحمي سفن وشركات التنقيب عن النفط والغاز فيها، إلا أن الاتفاق الذي سارعت إليه إسرائيل مع قبرص واليونان، وتزويدهم بأنظمة دفاع جوي متطور كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، لتعلن بهذه الخطوة بأن إسرائيل لن تسمح لتركيا بالتمدد لا في سوريا ولا في قبرص اليونانية وبحر إيجا. وأنها ستتقاسم مناطق النفوذ مع روسيا في سوريا بموافقة أمريكا التي سمحت بعودة روسيا إلى سوريا مقابل بعض التنازلات في الأزمة الأوكرانية الروسية وحربهم الدائرة.
تركيا من جهتها ستسعى للانتقام من أبناء الطائفة العلوية في الساحل السوري لرفضها الوجود التركي والسيطرة التركية على مناطق الساحل السوري (مناطق سيطرة روسيا سابقاً)، بحجة تعاملهم مع إسرائيل، لذا ليس مستبعداً أن تبدأ الاستخبارات التركية (MIT) بمراقبة العلويين في الدول الأوربية، وخاصة من هم في المجلس الإسلامي العلوي الأعلى، أمثال رئيسة المجلس الإسلامي العلوي في أوروبا منى خانم، وأمجد بدران، وكنان وقّاف، لكي تقوم باستهدافهم وتصفيتهم.
كما ستبحث عن ورقة ضغط إضافية على إسرائيل إلى جانب حركة حماس التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، وليس من المستبعد أن تبداً اتصالاتها مع حزب الله اللبناني (إن لم تكن قد بدأتها بالفعل) من مبداً (عدو عدوك صديقك) لتدعمهم عسكرياً عبر مناطق سيطرتها في سوريا، ضد إسرائيل من جهة، ومن جهة ثانية ضد المصالح الفرنسية في لبنان لتضغط عليها وتجبرها على التخلي عن الدعم السياسي إلى جانب أمريكا للكرد في سوريا.
الخاسر الأكبر والحلقة الأضعف في سوريا هي تركيا، خسرت مشروع طريق التنمية أمام براغماتية إسرائيل ومشروعها البديل، وستخسر في قبرص واليونان لأن إسرائيل وقعت اتفاقية شراكة مع هذه الدول إضافة إلى مصر. وقد خسرت الشريك القطري عندما استبدلت مشروع خطها للغاز بالغاز الأذري، كما خسرت روسيا لأنها كانت تسعى للسيطرة على الساحل السوري، وملء الفراغ الروسي هناك، والسيطرة على مصالحهم. كما خسرت الحاضنة الشعبية بعد انكشاف خططها وخاصة بعد سقوط نظام الأسد، والرفض التركي لخروج المستوطنين في مناطق عفرين وسري كانييه وكري سبي المحتلة، وإجبارهم على البقاء لمحاربة قوات سوريا الديمقراطية، في حرب لا طائل منها.
رياح جميع التغييرات الجيوسياسية في سوريا تهب بما لا تشتهي السفن التركية، كما أن رياح التغيير تقترب من تركيا مع إصرارها الوقوف في وجه دعوة القائد عبد الله في السلام والمجتمع الديمقراطي، والتهرب منمَ يقع عاتقها في الوصول إلى سلام يضمن حقوق الكرد في شمال كردستان وتركيا، إلا أن براغماتية القائد عبد الله أوجلان وحنكته السياسية، والتأييد الدولي لدعوته، والخطوات التي أقدم عليها؛ ستكون كفيلة في نهاية المطاف إلى جر تركيا القيام بخطوات نحو هذه العملية، التي قد تنقذ ما تبقى من ماء وجه أردوغان في المحافل الدولية، وتبعد رياح التغيير عنها.