
أصدر رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، يوم الأربعاء، المرسوم رقم (143) لعام 2025، الخاص بالمصادقة على النظام الانتخابي المؤقت لمجلس الشعب السوري.
وبحسب المرسوم؛ فإن المجموع الكليّ لعدد أعضاء مجلس الشَّعب هو 210 أعضاء، يُنتخب الثلثان من أعضاء مجلس الشّعب وفق أحكام هذا المرسوم، وتتوزع مقاعد المحافظة بحسب التوزع السّكاني فيها، بحيث يكون للدائرة الانتخابيّة مقعد واحد أو أكثر.
أثار المرسوم جدلاً واسعاً بين السوريين على مختلف انتماءاتهم السياسية، لجهة محاولة السلطة الراهنة فرض نموذجها الأحادي في الإدارة، وسن القوانين والتشريعات التي تتوافق مع طبيعتها وتوجهاتها الدينية المتطرفة، عبر إقصاء وتهميش قطاعات وفئات واسعة من الشعب السوري في المشاركة بتحديد مصير بلادهم. واعتبر العديد منهم أن مصادقة “الشرع” على ما يسمى “النظام الانتخابي المؤقت لمجلس الشعب السوري”، ليس إلا محاولة لترسيخ نظامه الاستبدادي وشرعنته، فمثلما هو لا يؤمن بأي نوع من الديمقراطية في إدارة البلاد، بل يكفّرها، فإنه في ذات الوقت يشوّه القيم الاجتماعية والقانونية والتشريعية التي راكمتها المجتمعات السورية طيلة تاريخها الطويل، ويلقّحها بفتاوى جهادية وأوامر قرووسطية أكل الدهر عليها وشرب، لجهة أن تلك الفتاوى لم تعد تنفع في إدارة الأوطان والشعوب في ظل التطور المذهل والحضاري في العالم، وعلى جميع المستويات. والأنكى منها؛ أن فريق السلطة يعدها تطوراً في بناء الدولة الحديثة، رغم أنها تعيد سوريا مئات السنوات للوراء.
إن الاستهتار بالعملية الانتخابية لاختيار الشعب ممثلين له، وصل بهم إلى حدّ الصفاقة، لأن يجيز “الرئيس” لنفسه اختيار ثلث أعضاء “المجلس”، وهو لم يحصل في أي من بلدان العالم، ويبدو أنه خجلاً لم يطلق عليه اسم “مجلس شورى المسلمين السنة”، رغم أنه لا يختلف عنه من حيث طريقة “التعيين” واختيار حتى ما أطلق عليهم “المرشحين”. فإن كان السوريون يطلقون على مجلس الشعب (البرلمان) أيام النظام البائد اسم “مجلس الدمى”، فمن المؤكد أن المجلس المزمع تشكيله الآن سيتجاوز النظام السابق في هذه المسألة، من حيث المحاباة في تعيين الأشخاص المحسوبين على جوقة الحكم من ذوي اللحى، وفرض شخصيات منبوذة لا رصيد اجتماعي لها. فإن المجلس هو المكان الذي تصدر تحت قبَّته التشريعات والقوانين، وتحوّل لاحقاً إلى الحكومة لينظم عملها، ويُجرى تنفيذها من قبلها؛ فإن المجلس في هذه الحالة يبدو أنه لن يتعدى مستوى إصدار “فتاوى التحريم والتكفير”، وهو، أي الرئيس، بالأصل ربط كل التشريعات والقوانين بما يسمى “مجلس الإفتاء” لتمريرها عبر غربالها الديني السلفي، وتكون أقرب إلى الفتوى منها إلى التشريعات والقوانين، وبالتالي أن مهمة المجلس هي شرعنة تلك الفتاوى، وهذا ديدن السلطة ومسعاها.
النظام الانتخابي لا يختلف عن المحاولات السابقة للسلطة الراهنة في فرض رؤية وتصور أحادي، حيث سبقها ما يسمى “الحوار” والذي كان أشبه بـ”حوار الطرشان” وفي أفضل حالاته كان “حواراً بيزنطياً” لم يقدم أي قيمة وطنية جامعة، بل ساهم في زيادة الشرخ المجتمعي، وبروز قطب واحد يستأثر بكل مقدرات البلد، ويأبى أن يشارك أحداً في صنع القرار. فكان ما يسمى الحوار من أجل تكريس حالة اللا حوار، وألحقه بـ”الإعلان الدستوري”، والذي عكس فيه بشكل واضح ومكشوف نوايا السلطة في توجيه بوصلة سوريا لتكون نسخة عن أفغانستان، وبكل تفاصيلها، من حيث تحديد هوية الرئيس الدينية والمذهبية، وجعل “التشريع الإسلامي” المصدر الأول والأخير لكل التشريعات، وألغيت بموجبه صفة الدولة العلمانية، وهو بطبيعة الحال موضع تكفير لدى السلطة. وأرادت السلطة استنساخ تجربة تركيا وأردوغان في إدارة الدولة أيضاً، عبر إلغاء منصب رئيس الوزراء، وحصر معظم الصلاحيات بيد الرئيس، فهو رئيس الدولة، القائد العام للجيش، رئيس الوزراء، ورئيس مجلس القضاء، ووو.. وليس للبرلمان (مجلس الشعب) أي سلطة عليه، فهو لديه صلاحيات لمحاسبة المجلس، رغم أن العُرف في كل الدول الديمقراطية التي تحترم قوانينها وتشريعاتها تكون أعلى سلطة فيها هي البرلمان، وهو يستطيع عزل الرئيس وتقديمه للمحاكمة أيضاً، فيما الأمور لدينا في ظل السلطة الراهنة معكوسة.
وجاءت عدة مواد وفقرات من المرسوم الذي أصدره الرئيس متناقضة فيما بينها، وتحمل دلالات الاستفراد بالقرار. ففي إحدى فقرات مواد المرسوم يذكر أنه “في حال وفاة أي من أعضاء مجلس الشعب المنتخبين، أو المعينين، أو استقالته، أو إسقاط العضوية عنه، يُعيين بديل عنه من قبل رئيس الجمهورية”، فيما العرف القانوني يستدعي أن يُعيَّن من يليه في نيل الأصوات في ذات الدائرة الانتخابية، وفي أسوأ الحالات أن يعين المجلس أحد هؤلاء الأعضاء الذين يُطلق عليه اسم “الاحتياط”.
من جهته كتب المحامي والناشط في الدفاع عن حقوق الإنسان “ميشال شماس”، على صفحته في فيسبوك “طالما أن النظام الانتخابي المؤقت الذي صادق عليه الرئيس الشرع اشترط “ألا يكون المرشح محكوماً بجناية أو جرم مُخِلٍّ بالشرف”، فما الداعي للاشتراط أيضاً: أن يكون المرشح معروفاً بحياديته ونزاهته. وألا يكون له عداوة ظاهرة مع أي مكون من مكونات دائرته الانتخابية”.
واضح من إيراد هذين الشرطين أن الهدف منه استبعاد أي مرشح له موقف سياسي واضح أو نفوذ محلي، بمعنى آخر، يمكن اعتبارها طريقة غير مباشرة لتصفية المنافسة، وضمان بقاء المرشحين الأكثر انسجاماً مع السلطة الحالية فقط.
وورد في الفصل الثامن المادة (21) بخصوص الشروط التي يجب توفرها في عضو الهيئة الناخبة “ألا يكون من داعمي النظام البائد والتنظيمات الإرهابيّة بأي شكل من الأشكال، وألا يكون من دُعاة الانفصال والتقسيم أو الاستقواء بالخارج”.
وهذه الفقرة بالذات تحمل إشكالية اصطلاحية كبيرة، بخصوص “دُعاة الانفصال والتقسيم والاستقواء بالخارج”، فهي حمّالة أوجه، ما تجعلها السلطة عجينة في يدها، لترمي بالتهمة على كل من تجد فيه أنه لا يتوافق مع توجهاتها وإيديولوجيتها. ففي هذه الحالة، ومن منظور هذه المادة أن “العلويين، الدروز، الكرد” وكل من يعارض السلطة هم “دُعاة الانفصال”، كما أنها في هذه الحالة تحصر عملية الترشح للانتخابات بالمناطق الواقعة تحت سيطرتها، وتحرم المناطق الأخرى، وبأفضل الأحوال هي ستعين بعض الموالين لها من تلك المناطق، وتدّعي بعد ذلك أنهم يمثلون تلك المناطق، وهي اللعبة التي كان يجيدها النظام البائد السابق، ويبدو أن النظام الحالي سيكرر ذات السيناريو.
ينبغي على السلطة أن تراجع نفسها، وتكون أمام مسؤولياتها كممثلة لجميع السوريين، وتفتح صفحة جديدة من المصالحة الوطنية، عبر طوي الصفحة الماضية بكل مآسيها وتراجيديتها المؤلمة، وتبدأ بإطلاق حوار وطني شامل لا يستثني أحداً، لوضع برنامج وطني لانتشال سوريا من أزمتها. الواضح والثابت أن الأزمة لم تنتهِ برحيل النظام السابق، بل تفاقمت أكثر، وأفضل وسيلة وأقصر طريق للوصول إلى حل؛ هو مشاركة كل السوريين في بنائها وتحديد مصيرها، والانتخابات المقبلة لن تكون إلا فصلاً جديداً من فصول تعميق الأزمة وإعادة إنتاجها.