نحو شراكة وطنية جديدة: قراءة في توجهات الاندماج والحوارات السياسية في شمال وشرق سوريا

قاسم عمر
تشهد مناطق شمال وشرق سوريا حراكًا سياسيًا متصاعدًا، يتجلى في سلسلة من اللقاءات مع حكومة دمشق الانتقالية، بمشاركة فاعلين دوليين. هذه اللقاءات، وإن كانت ما تزال في مراحلها الأولية، تمثل انتقالًا من التنسيق العسكري والإداري المحدود إلى مسارات تفاوضية أكثر شمولاً.
ويُلاحظ في الخطاب الصادر عن القوى السياسية والعسكرية الفاعلة في هذه المناطق طرحٌ جديد يتبنّى مفاهيم “الاندماج الوطني” و”الشراكة بين المكونات”، بدلًا من المفردات القديمة التي كانت تُحمّل هذه القوى نزعة انفصالية.
هذه القراءة تسعى إلى تحليل ملامح هذا الخطاب، ورصد مضامينه الأساسية، وتفكيك دلالاته السياسية والاجتماعية، ضمن السياق السوري العام، وتحديد موقعه في إطار التحولات الجارية في البلاد.
حيث أُعلن مؤخرًا عن انطلاق مرحلة جديدة من الحوار بين الأطراف المحلية في شمال شرق سوريا والحكومة السورية الانتقالية، بعد لقاء وُصِفَ بأنه نقطة تحول في طبيعة العلاقة، وذلك بحضور أطراف دولية فاعلة، بينها فرنسا والولايات المتحدة.
ويُعد الحضور الدولي في هذه اللقاءات مؤشرًا على رغبة في تدويل المفاوضات، أو على الأقل، ضمان نوع من التوازن السياسي في غياب مظلة أممية رسمية جامعة.
ورغم أهمية اللقاءات، أُشير إلى أن التحضيرات السابقة له لم تكن كافية لتحقيق نتائج ناجحة، ما يعكس الفجوة في الرؤية أو التوقعات بين الطرفين. وهذا يبرز تحديًا مرتبطًا بأدوات التفاوض، والإرادة السياسية الفعلية لدى الأطراف المعنية.
المسار التفاوضي لا يقتصر على الشعارات السياسية أو الترتيبات الإدارية العامة، بل يشمل قضايا جوهرية تتعلّق بتوحيد القوى العسكرية، ودمج المؤسسات ضمن هيكل الدولة السورية.
الهدف الظاهر هو التوصل إلى صيغة تضمن الاندماج المؤسسي التدريجي بين القوى القائمة على الأرض والهياكل المركزية، من دون إلغاء الخصوصية المحلية أو فرض نموذج واحد بالقوة.
هذا التوجه يعكس تحولاً من المطالبة بالاستقلالية المطلقة إلى السعي نحو تركيبة مرنة للدولة، تقوم على التعدد واللامركزية الوظيفية، وتسمح بإدماج مناطق الشمال والشرق ضمن دولة واحدة، دون محو خصوصياتها الإدارية والعسكرية.
يحتل مفهوم “الاندماج” موقعًا محوريًا في الخطاب السياسي الصادر عن القوى الفاعلة في شمال وشرق سوريا. لكن هذا الاندماج لا يُطرح كمفهوم إداري فقط، بل باعتباره رؤية شاملة لإعادة بناء الدولة السورية على أسس تشاركية.
يتم التأكيد أن الاندماج لا يمكن فرضه بالقوة، بل يجب أن يبنى على الشراكة الطوعية بين جميع المكونات والمناطق والإدارات. وهذا الخطاب يمثل قطيعة مع منطق الهيمنة المركزية، ويعيد تعريف العلاقة بين الأطراف السورية في إطار عقد اجتماعي جديد يراعي الخصوصيات ويحترم التعدد.
وبدلًا من الحديث عن مطالب فئوية أو مناطقية، يتم تقديم نموذج قائم على التعايش اليومي في تلك المناطق، حيث تتشارك مختلف الجماعات – الكرد، العرب، السريان، وغيرهم – في إدارة الحياة العامة. ويُعرض هذا الواقع كمختبر عملي يمكن تعميمه ليشكّل نواة لسوريا جديدة تعددية.
من الواضح أن الرؤية المطروحة لا تقتصر على النطاق القومي أو الإثني، بل تتّسع لتشمل خصوصيات المناطق المختلفة داخل الجغرافيا السورية. إذ أن هناك رغبة واضحة في الانخراط في الدولة السورية، لكن من خلال الاحتفاظ بالمؤسسات المحلية، وإدارتها من قبل مكونات المنطقة، في إطار من الشراكة والاحترام المتبادل.
هذا الطرح يبتعد عن منطق “الإدماج القسري” ويقترب من نماذج اللامركزية الديمقراطية المعروفة في السياقات التعددية، حيث يتم احترام هياكل الحكم المحلي ضمن إطار سيادي وطني شامل.
وعليه، فإن الحوارات الجارية تتوزع على مستويين:
- مستوى عام يبحث في القضايا الكبرى المتعلقة بهيكل الدولة.
- ومستوى خاص بكل مكون أو منطقة، يراعي التفاوت في الاحتياجات والمطالب والخصوصيات.
هذا النمط المزدوج في الحوار يعكس إدراكًا بأن المسألة السورية لا يمكن اختزالها في معادلة مركزية واحدة، بل تتطلب حلولاً مرنة متعددة الطبقات.
من القضايا المحورية التي تتم طرحها، موضوع الثروات الطبيعية، وعلى رأسها النفط. وقد تم التأكيد على أن النفط هو “ملك لجميع السوريين”، وينبغي أن تُوزع عوائده بعدالة على مختلف المناطق.
لكن في الوقت نفسه، هناك مطالبة واضحة بضرورة تنظيم هذا الملف ضمن إطار تفاهم رسمي وواضح، ما يعني أن المسألة ليست فقط اقتصادية، بل سياسية – تفاوضية بامتياز.
فتح ملف النفط بشكل رسمي يُعد خطوة نحو إعادة توزيع السلطة الاقتصادية، وتثبيت حق المناطق المنتجة في أن تكون شريكًا فاعلًا في إدارة الموارد، لا مجرد منفّذ لتوجيهات المركز.
إن انفتاح مسار الحوار في شمال وشرق سوريا بحضور فاعلين دوليين مثل فرنسا والولايات المتحدة يعكس بعدًا جيوسياسيًا يتجاوز الطابع المحلي أو الوطني البحت.
الوجود الدولي في هذه اللقاءات لا يُفهم فقط بوصفه دعمًا تقنيًا أو سياسيًا، بل يشكّل توازنًا ضمنيًّا في مواجهة النفوذ الإقليمي، وهذا يخلق بيئة تفاوضية أكثر تعقيدًا لكنها أيضًا أكثر واقعية، حيث تتقاطع مصالح الداخل مع رهانات الخارج.
هذا التداخل بين المحلي والدولي يجعل من أي تفاهم محتمل نتاجًا لصيغة “توافق مركّب” يشمل:
- إرادة سورية داخلية لدى مختلف الأطراف.
- موافقة ضمنية أو صريحة من الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة.
من هنا، فإن الحديث عن شراكة وطنية لا يمكن فصله عن ديناميكيات النفوذ والسياسات في الجوار الإقليمي، وخصوصًا التهديدات المستمرة من قبل بعض الأطراف الإقليمية التي ترى في اللامركزية خطرًا على أمنها القومي كتركيا.
الخطاب السياسي المرتبط بمناطق شمال وشرق سوريا يعبّر عن نضج في الرؤية، وانتقال من لغة الدفاع الذاتي إلى لغة المبادرة السياسية. حيث يتم طرح تصور لدولة سورية جديدة تقوم على الاندماج الطوعي، وتوحيد المؤسسات، وبناء نموذج تشاركي لا يُقصي أحدًا.
ويعكس هذا الخطاب استعدادًا مبدئيًا للانخراط في مشروع الدولة – لا بصيغة العودة إلى النظام القديم، بل من خلال صياغة هوية وطنية جامعة تتأسس على التعدد والعدالة والتوازن المؤسسي.
رغم وضوح الطرح ومصداقيته السياسية، إلا أن العقبات الواقعية ما تزال كبيرة، ويمكن تلخيصها في المحاور التالية:
1. غياب الإرادة السياسية المركزية لقبول نماذج اللامركزية أو الإدارات الذاتية كجزء من بنية الدولة.
2. استمرار الضغوط الإقليمية وخصوصًا من دول مجاورة تخشى انتقال تجربة الشراكة المحلية إلى داخل حدودها.
تُمثّل التوجهات السياسية في شمال وشرق سوريا نموذجًا سياسيًا يعيد تعريف علاقة المواطن بالدولة، والمكوّن المحلي بالمركز، من خلال مفاهيم التشاركية والاندماج والاعتراف بالتعدد.
إن تحقيق هذه الرؤية مشروط بإعادة بناء الثقة، وتوفير ضمانات متبادلة، واعتماد منطق التفاوض المرن القائم على الاعتراف المتبادل، بدلًا من الفرض والهيمنة.
وبينما تبقى الطريق طويلة ومعقّدة، فإن هذه المقاربة قد تفتح أفقًا جديدًا نحو إعادة تأسيس الدولة السورية على أسس مختلفة عمّا كانت عليه قبل العام 2011، بما يعيد الاعتبار للإنسان والمجتمع والديمقراطية.