مانشيتمقالات رأي

المشهد السوري بين الإعلام والسلاح

قاسم عمر

في المشهد السوري المعقّد، بات الإعلام الموازي وما يُعرف بـ”فرق الذباب الإلكتروني” أحد أبرز أدوات السلطة في تأطير الرأي العام، وإدارة حالة الصراع المستمر. لم يعد الإعلام رديفاً للخبر أو ناقلاً محايداً للأحداث، بل تحوّل إلى ماكينة نفسية تُعيد إنتاج رواية السلطة، وتشرعن ممارساتها القمعية من خلال محاكاة الغرائز الجمعية، وتحريك العصبيات الطائفية والعشائرية، في محيط اجتماعي ينوء أصلًا تحت ثقل الانقسام والدم.

تقوم هذه المنظومة الإعلامية غير الرسمية، والممولة مباشرة وبشكل غير معلن من السلطة، بإعادة إنتاج الخطاب السلطوي بأدوات ترهيب وتشهير معاصرة. فهي لا تكتفي بتأييد مواقف النظام، وترويج وسومه السياسية على المنصات الاجتماعية، بل تمارس دوراً وظيفياً مزدوجاً: تحطيم صورة الخصم السياسي أو المجتمعي داخلياً، وتثبيت الخطاب السلطوي خارجياً كخيار “أقل كلفة” في وجه البدائل الممكنة.

واحدة من أخطر وظائف هذا الإعلام هي تشويه المعارضين، أفراداً كانوا أم جماعات، ووصمهم بتهم العمالة أو الطائفية أو الإرهاب. وهو بذلك لا يمارس العنف المادي المباشر، إنما يشرعن عنفاً رمزياً قد يكون أكثر تدميراً على المدى البعيد، إذ يهيّئ المناخ لتقبل الانتهاك، ورفض التسويات. فما من فرد أو تيار يُبدي مقترحاً لحلّ سياسي، أو يطرح خريطة طريق للخروج من الأزمة، إلا ويُلاحق بجيش من الشتائم والتخوين، وكأن أي انحراف عن السردية الرسمية يُعد خيانة وطنية.

لم يكتفِ الإعلام الموازي بتزييف السرديات أو هندسة الوعي الشعبي، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عبر الترويج لممارسات عنيفة توازي من حيث التأثير النفسي أدوات القمع المادي التي يستخدمها النظام. وهنا تتجلّى وظيفة “مسرحة العنف” التي تَظهر في تصوير عمليات إعدام، وتوثيق القتل والتمثيل بالجثث، وتوظيف هذه المواد البصرية كأداة تحكّم في سلوك الخصم، وإخضاع المجتمعات عبر التخويف الرمزي.

لقد برز “الجيش الجديد” كما تشير المقاطع المصوّرة كنسخة مشوهة من جيش النظام، يكرر مشاهد داعش بشكل مبتذل، لكنه يصبّ في ذات الهدف: خلق رعب جمعي من “البديل”. فقد مثّلت حفلات الإعدام الغرائبية، كالرمي من شاهق أو الحرق أو قطع الرؤوس، نوعاً من العنف المعمّم، الذي يُمارَس لا لضرورات ميدانية، بل لتغذية سردية تقول ضمنًا إن كل من لا يخضع للسلطة سيلاقي هذا المصير. إنها حالة من توحّش مسرحي، وظيفته الوحيدة تجريد “الآخر” من إنسانيته.

في هذا السياق، يُعاد تموضع السلطة لا بصفتها “منقذة” أو حتى “مجرمة تقليدية”، بل بوصفها الكيان الوحيد القادر على ضبط الفوضى، ولو عبر أدوات فوضوية بحد ذاتها. فالتوحّش هنا لا يُخجل السلطة، بل تستثمره بوصفه ضرورة.

أخفقت السلطة السورية الانتقالية، على الرغم من تصعيدها الإعلامي وتوظيفها للذراع الموازي، في تحقيق أهدافها العسكرية والأمنية على الأرض، خصوصاً في المناطق التي تتمتع بخصوصية مكوّناتية أو تاريخ مقاومة. السويداء كانت المثال الأبرز على ذلك؛ إذ شكّلت تجربة رفض مقاتليها تسليم السلاح نموذجًا مغايرًا لما حدث في الساحل، حيث سُجّلت مجازر وانتهاكات عميقة تحت غطاء “المصالحة” و”عودة الدولة”.

رفض السويداء الاستسلام لم يأتِ من فراغ، بل من وعي جمعي استند إلى وقائع مريرة. الخطة (أ) في بسط السيطرة المباشرة فشلت، ما دفع دمشق إلى اللجوء إلى الخطة (ب): إرسال آلاف المقاتلين تحت بند “الفزعة” لتحفيز الانتماء العشائري. وعندما لم تُجدِ نفعاً، ظهرت الخطة (ج) المتمثلة بفرض حصار اقتصادي خانق على الجبل، غير أن ذلك أيضاً اصطدم بصمود اجتماعي ونفسي مستند إلى ذاكرة حاضرة من الألم والخديعة.

هذه التراكمات، ومع ما أظهره الإعلام الموازي من صور مهينة بحق المدنيين في الساحل والسويداء، جعلت من مطلب نزع السلاح قضية “كرامة وجودية”. وفي هذا الإطار، يصبح موقف قسد من الاحتفاظ بسلاحها مفهوماً، بل متوقعاً. إذ لا يمكن الطلب من قوة تمثّل مكوّناً مهدَّداً أن تنزع سلاحها في مناخ من انعدام الثقة، ووسط سردية سلطوية ما تزال تمارس الترهيب وتشرعن الإقصاء.

قسد، ليست في وارد التخلي عن سلاحها تحت تهديد خطاب “الوطنية الموحّدة” الذي يخفي وراءه مشروع احتواء مكوّناتها وتهميشها، بعد أن أثبتت السلطة أنها غير معنيّة ببناء شراكة سياسية حقيقية، وإنما تسعى فقط إلى فرض الاستسلام بشروطها.

بعد كل ما جرى من إخفاقات ميدانية وخسارات سياسية، لا يبدو أن أمام السلطة السورية خيارات كثيرة في التعامل مع الملفات العالقة، وعلى رأسها ملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد). إن التمسّك بمطلب إلقاء السلاح كمبدأ تفاوضي ثابت لا يعدو كونه تمسكاً بوهم السيطرة الكاملة، وهو طرح غير واقعي بعد سنوات من الحرب، والتفكك الاجتماعي، وتعدّد مراكز القوة والنفوذ.

في المقابل، تبرز فكرة “الدمج العسكري والأمني” كمسار أكثر عقلانية، لكنه يتطلب شجاعة سياسية من دمشق، تبدأ بالاعتراف بواقع وجود قوى عسكرية محلية لها مشروعها وخلفيتها الاجتماعية. أيُّ نقاش يتجاوز هذا الأفق محكوم عليه بالفشل، ومجرد مضيعة للوقت على طريقة النظام المعتادة في الرهان على “عامل الزمن” كما فعل بشار الأسد طيلة سنوات الحرب، بينما كانت الوقائع السياسية والميدانية تتآكل من تحت يديه.

يتعيّن على دمشق، إذا أرادت تجنّب السيناريو الأسوأ، أن تُعد ورقة واضحة المعالم حول طبيعة هذا الدمج: ما هي الضمانات؟ ما موقع قسد في الهيكلية الأمنية الجديدة؟ ما الضوابط السياسية التي تتيح بناء ثقة متبادلة؟ وكيف ستُصان حقوق المكوّنات المختلفة ضمن هذه المنظومة الجديدة؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى