بعيداً عن النوستالجيا.. قراءة في ثنايا خطوة “الكردستاني” التخلي عن السلاح

محمود علي
جاءت خطوة مجموعة من حزب العمال الكردستاني بحرق أسلحتهم في مدينة السليمانية بإقليم كردستان العراق، لتضع نهاية فصل دامٍ من الكفاح المسلح الذي خاضه الحزب طيلة أكثر من أربعين عاماً، وتلبية لنداء زعيمها الأسير والمفكر “عبد الله أوجلان”.
الخطوة برمزيتها ودلالاتها وأبعادها السياسية، نقلت القضية الكردية، ليس في باكور/ شمال كردستان فقط، بل في الأجزاء الأخرى أيضاً، من واقع قضية مظلومية شعب طالما لاحقته تهم الإرهاب، إلى قضية دخلت طور الحل وتفكيك عقدها كأداء، ولِتَعبُر معها للدخول في عصر جديد سمته الأساسية التعامل معها على أسس العدالة والديمقراطية، بعدما شكلت أرقاً لأنظمة تنكّرت – وما تزال – لحقوق شعب كافح بكل الأساليب لتثبيت وجوده، وليكسر في العشرية الأولى من القرن الحالي الفيتو الدولي والإقليمي عليه في العيش الآمن على أرضه التاريخية.
يكاد المرء لا يصدق عينه وهي ترى كيف لا يتردد مقاتلون من الحزب، وهم يرمون بأسلحتهم ألسنة النيران لتلتهمها، وهم الذي كانوا حتى الأمس القريب يرمون بأنفسهم فيها دفاعاً عن قضيتهم، فهل تمكن القائد “أوجلان” من انتشال حركته مما كان يُعَدُّ لها من سيناريوهات لا تقل سوءاً عن السيناريوهات التي سرت على حركة “حماس” وحزب الله”، النظام السوري وكذلك إيران مؤخراً؟ هل قرأ “أوجلان” المعادلة الجيوسياسية الجديدة في المنطقة والعالم، واستخلص بعين الباحث الإستراتيجي أن حركته ليست بمنأى عن ذاك السيناريو، فسارع إلى إنقاذها قبل فوات الأوان؟ وهل أدخل القضية الكردية ومعها حركته إلى معادلة الحلول الإستراتيجية على صعيد المنطقة، ورأى أن تخلي حركته عن الكفاح المسلح نقلها من طور اعتماد الحلول العسكرية للقضية الكردية، إلى طور الحلول السياسية والديمقراطية، بعد أن راكمت خلال نحو خمسين عاماً من كفاحها السياسي والعسكري ميراثاً ضخماً من الكفاح النوعي، وتمكن بناء عليه من فك طلاسمها لتغدو من القضايا الساخنة على الأجندة الدولية والإقليمية؟ ولكن السؤال الأهم؛ هل بإمكان الحركة أن تعيد هيكلة نفسها وفق صيغة جديدة تلائم الظروف الراهنة، وتعمل بنشاط وفعالية كما كانت في عملها العسكري وتجيد اللعبة السياسية وتديرها بجدارة؟ إلا أن السؤال الرئيسي يمكن في مدى جدية الطرف الآخر، أي النظام التركي، وما هو المطلوب منه بعد أن استكمل “أوجلان” والحركة تنفيذ التزاماتهم والوفاء باستحقاقات العملية التي أطلقها “أوجلان” في مشروعه “السلام والمجتمع الديمقراطي”؟ وهل ستقطع تركيا، كنظام ونخب سياسية وثقافية، مع تاريخها الإنكاري، وتبدأ هي الأخرى فصلاً جديداً في قبول حقوق الكرد، وإشراكهم في إدارة البلاد؟
ثمة أسئلة أخرى كثيرة، وقد لا يتسع المجال لاستعراضها كلها والإجابة عليها. إلا أن الثابت في كل هذه التطورات المتلاحقة بخصوص القضية الكردية وحركة حزب العمال الكردستاني، أن الحركة قطعت شوطاً كبيراً في طريق حل القضية الكردية، بعد أن وضعها “أوجلان” على سكة الحل، ونزع كل التهم الجزاف عنها، وجعلها تستعيد قوتها السياسية والفكرية، التي طالما كان الكفاح المسلح يمتص كثيراً تلك القوة التي أسس لها “أوجلان” بالذات. والأمر الأكثر أهمية أنها امتلكت شرعيتها الدولية والإقليمية، وتجاوزت الأطر الضيقة التي حصرت نفسها فيها، فأجرى “أوجلان” التغيير فيها قبل أن تفقد تلك القوة، وتتحول إلى ورقة تذريها الرياح.
لا شك أن مشهد وضع الأسلحة في المحرقة، كان تراجيدياً لأبعد الحدود بالنسبة للكردي الذي طالما تمسك بالبندقية كسبيل وحيد لحل قضيته المغدورة على مذابح مصالح الدول العظمى، إلا أن استقراء المستقبل الذي كان ينتظر تلك البندقية، قد يجعل من المشهد أقل ألماً ووجعاً، وأي مقاربة عاطفية من القضية قد تضر بها ولا تنفعها، في وقت يتغير العالم حولنا بسرعة وأكثر مما كنا نتوقع. على الكرد تجاوز حالة النوستالجيا، والانتقال إلى مرحلة بناء الجديد الذي يحقق لهم الانخراط التام في معادلات التوازن الإقليمية والدولية. فالحركة بالاستناد إلى الميراث الكفاحي السياسي والعسكري، وكذلك الجماهيري الضخم، لديها القدرة على إدارة المعركة السياسية والدبلوماسية بكل كفاءة، وإيصالها إلى خواتيمها المرسوم لها. وأي شك في ذلك يعتبر نوع من العبث، وإعادة القضية الكردية إلى المربع العنفي، والذي تجاوزها الزمن، على الأقل وفق نظرة وتقييم قائدها “أوجلان”. خاصة أن الحركة أقدمت على هذه الخطوة التاريخية من موقع قوة، وليس من موقع ضعف وهزيمة كما قد يتوهم البعض.
ما يزال شكل الحركة المستقبلي غير واضح المعالم، ولا يمكننا إطلاق تحليلات وتفسيرات مبنية على الأوهام، والوصول إلى استنتاجات يتطلب بعض الوقت، على أن تستند إلى وقائع وحيثيات. كل من يعرف القائد “أوجلان” والحركة، يدرك جيداً بأنها قادرة على إجراء التغييرات والتحولات في هيكليتها التنظيمية وتوجهاتها السياسية، فلديها القدرة على التأقلم مع الظروف السياسية المحيطة. والتكهنات الحالية تشبه إلى حد كبير ما رددوه عن الحركة لحظة وقوع القائد “أوجلان” في الأسر عام 1999، فالكل توقع أن ينفرط عقد الحركة، إلى حد وصفها البعض بأن الحركة تمثل الرجل الواحد، وكان يُقصد بها “أوجلان”، وبمجرد وضع نهاية له، ستكون نهاية الحركة أيضاً. إلا أنها – أي الحركة – ملأت الفراغ الذي تركه القائد “أوجلان” بعد أسره، وحققت تطورات سياسية وعسكرية أفقية وعمودية، وطوّرت أدواتها وأساليبها السياسية والدبلوماسية، كانت إحدى ثمارها المرحلتان السابقتان للسلام مع النظام التركي، ورغم فشلهما أمام التعنت التركي، إلا أن الحركة تمكنت من الانتقال إلى مرحلة متقدمة جداً، ولا شك أنها بفضل تلك التطورات، تقف الآن بشكل ندي أمام الدولة الثانية في حلف الناتو، وتفاوضها على مصير بقائها كدولة ونظام. بالتأكيد لسنا أمام استعراض الماضي، إلا أن التذكير قد يضع الأمور في سياقاتها الصحيحة، ويمكن البناء عليه في تقديم قراءة منصفة للواقع والمستقبل.
بكل تأكيد الكرة الآن هي في الملعب التركي، وهي أمام استحقاقات كبيرة، من شأنها تغيير وجه تركيا، لتعيد وضع أسس جديدة لبناء الدولة الديمقراطية التشاركية، وتعمل قطيعة كاملة مع ماضيها الشوفيني الإنكاري الإلغائي الإبادوي، ماضي المجازر والقتل والدولة ذات اللون الواحد. إن أردوغان الباحث عن مجد شخصي يواجه ثلاثة تيارات أساسية ضمن نظام حكمه وخارجه، تقف حجرة عثرة في المضي قدماً بعملية السلام؛ أول تلك التيارات يمثله وزير خارجيته “حقان فيدان” الحامل للفكر الاستخباراتي أكثر من السياسي، والقريب من التيار الأوراسي الذي يمثله رئيس حزب العمال التركي “دوغو بيرينجك”، فيما التيار الثاني يمثله ثلة من ضباط قيادة الأركان، المحسوبين على تيار فتح الله غولان. فرغم أن أردوغان وجه ضربة قاصمة للمؤسسة العسكرية، وأقصى منها معظم المرتبطين بحركة “الخدمة”، إلا أن البعض منهم ما زالوا يحتفظون بقوتهم ووجودهم، حيث أن بعض أطراف الأخيرة لا ترى أي مصلحة في نجاح عملية السلام بين الكرد والأتراك، وهم الذين كانوا يعتاشون على الحرب في كردستان. والتيار الثالث يمثله بعض كبار التجار وأصحاب رؤوس الأموال، وهم بدورهم في شراكة إستراتيجية مع بعض أجنحة الجيش.
إلا أن الدولة العميقة الممثلة بحزب الحركة القومية ورئيسها “دولت باهجلي” هي من تقود في العمق عملية السلام، لقناعتها أن من يستطيع إنقاذ تركيا من مصير يشابه سوريا وإيران، هو القائد “أوجلان”. واليوم تقدم “باهجلي” برسالة شكر إلى “أوجلان” وقال بأنه أوفى بالتزاماته وعهوده، وكأنه يغمز لأردوغان وفريقه للمبادرة والرد على خطوة “أوجلان” وفتح البرلمان أمام إجراء تغييرات بنيوية جوهرية في شكل الدولة التركية، وكذلك دستورها وقوانينها.
ماتزال الدولة التركية تراوغ وتحاول التهرب من التزاماتها في الانخراط بشكل جدي وعلني في عملية السلام، ولم تبدِ إلى الآن أي نية حقيقية في إجراء التغييرات والتحولات في تركيا، رغم أنها لا تملك رفاهية التكيف مع الوقت في ظل التطورات العاصفة بالمنطقة والعالم، وهي تدرك جيداً أن بوابة الإنقاذ لها هي قبولها بمشروع القائد “أوجلان”، وأولها الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وفي مقدمتهم السيد “أوجلان”، حيث قالت الرئيسة المشتركة لمنظومة المجتمع الكردستاني “بسي هوزات” اليوم في مراسم حرق الأسلحة بالسليمانية، إن الاستمرار في عملية إمحاء السلاح مرهونة بإطلاق سراح القائد “أوجلان”، فهل سيبادر أردوغان في خطابه اليوم، الذي وصفته بعض الدوائر المقربة منه بأنه “تاريخي”، إلى الإعلان عن مفاجآت قد تدشن فعلاً عهداً جديداً في تركيا، أم أنه سيصر على التمسك، وينظر إلى عملية السلام من منظور أن تركيا “تتحرر من الإرهاب”؟