مقالات رأي

القرار الأممي 2799 وإعادة صياغة مستقبل سوريا


محمود علي
أعاد القرار الأممي 2799 إدخال سوريا إلى المجتمع من أوسع أبوابه، وفق ترتيب ومنظومة سياسية وعسكرية واقتصادية مغايرة لسوريا القديمة التي نزعت عن نفسها ثوب البعث، ولتدخل معها مرحلة أكثر اضطراباً وقلقاً داخلياً وخارجياً، وتتحول إلى “شبه دولة”، واقعة تحت الوصاية الدولية والإقليمية. دولة عاجزة مشلولة الإرادة والقوى، تحركها أيادي خارجية، ولتكون أبعد ما تكون عن الدولة الوطنية.
إنها سوريا جديدة يُحدَّد مصيرها في دوائر خارجية، لتغدو نموذجاً للدولة الفاشلة في المنطقة، يُعاد فيها تركيب بنيتها السياسية والديمغرافية وفق أسس هجينة تتناغم مع مصالح وسياسات الحركة العالمية للحداثة الرأسمالية من خلال “ترويض الإسلام السياسي” بشقّيه المتطرّف الجهادي والسلفي، حتى لا تشبه أفغانستان أيضاً، ومن ثم يجري تعويم نظامها عبر شبكة عالمية متنفّذة ومُسيطرة على القرار السياسي والعسكري الدولي، ولتسبغ عليه “شرعية” شاذة غريبة الأطوار تتعارض مع كل الأعراف الدولية والحقوقية والقانونية.
تسويق النظام السوري الذي هو في طور التَشكُّل والولادة، يثير استغراب العديد من الأوساط السياسية والنخب الفكرية والأكاديمية. حتى ما يروّج له من قبل بعض القوى حول فكرة “التقسيم” تكاد لا تتشابه مع حالات تقسيم المنطقة إبّان سايكس – بيكو ولوزان. يبدو أن الخارطة السورية تهالكت كثيراً، وغدت تشكل عبئاً على الإقليم والعالم، وهناك ضرورة لإعادة رسمها وفق مصالح القوى الناشئة، لتخالف منطق الخرائط القديمة، التي طالما تشبثت بها الأنظمة المتعاقبة عليها، ومثلت دور الحارس والحامية لها، تقمع شعوبها تحت يافطة “الوطنية والقومية”، وتشن حروباً عبثية لا دفاعاً عن أوطانها، بل لحفظ كياناتها وترسيخ أنظمتها، وتبشر بملامح خرائط جديدة قادمة، ترسم “سلاماً بالقوة”، مثلما عبّر عنها ترامب ونتنياهو.
أعاد القرار 2799 تعريف سوريا كوطن وجغرافيا تضم مختلف مكوناتها المجتمعية، وترسم مساراً مغايراً لما كان معتاداً في زمن البعث، وحتى لما كان سائداً منذ استقلالها المزعوم عن فرنسا.
إدراج تفاصيل بنود القرار تحت الفصل السابع من ميثاق مجلس الأمن، يعيد ترتيب أوراق الملف السوري بشكل إلزامي، ولا يقتصر على رفع أسماء معينة من قوائم العقوبات، ليتعدى إلى تحديد شكل بناء الدولة السورية المستقبلي ويحدد توجهاتها، ويضع الأسس القانونية والسياسية والجغرافية لمرحلة ما قبل تشظي الكيان السوري، بكل ما يحمله من ارتدادات وانعكاسات على دول الإقليم، ولتفتح الباب أمام تفكك دول أخرى، وأولها تركيا، التي تنظر إلى نفسها أنها بعيدة عن رياح التغيير، مثلما كان يعتقد النظام السوري السابق في بداية ثورات الربيع العربي.
لم تعد السياسات والتحولات الجارية على المسرح الإقليمي والعالمي خافية على أحد أو تدور في الدهاليز ووراء الكواليس، وأي تدليس أو مقاربة مشوهة لحقائق مكشوفة، شبيهة كمن يغرس رأسه في الرمال مثل النعامة. تركيز القرار الأممي 2799 على الدور المركزي والمحوري لقوات سوريا الديمقراطية، يعبّر عن توجه عالمي بأنه لا يوجد على الأرض السورية شريك يمكن الاعتماد عليه ميدانياً سوى (قسد)، بعد أن أثبتت نفسها كطرف متماسك، وتمكنت من التحرر من عقدة حصار الجغرافيا ولعنة “الكرد يفقدون على الطاولة ما كسبوه في الميدان”، وليتحولوا من قوة محلية محاصَرة إلى شريك دولي ثابت، لا يمكن الاستغناء عنه في معادلة الأمن العالمي ومحاربة الإرهاب، وفي أي ترتيبات إقليمية ومحلية. ورغم المحاولات الحثيثة لتسويق نظام “الشرع”، إلا أنه لا يزال في طور الاختبار، وثبت لدى الدول النافذة والمتحكمة بالقرار الدولي، أن النظام السوري الراهن غير قادر على تقديم ضمانات أمنية تتوافق مع الحسابات والمصالح الغربية في سوريا، ولا الفصائل المرتبطة بتركيا يمكن الاعتماد عليها في تهيئة المناخ لعودة الغرب وشركاته للعمل في الجغرافيا السورية، وحتى “التنظيمات الجهادية” انتهت صلاحيتها وفقدت القدرة على إضعاف خصوم لها مثل إيران.
القرار الأممي وضع النظام والقيادة السورية الراهنة أمام امتحان صعب، ونجاحها من فشلها ربما يحدد مستقبلها هي ومعها حلفاؤها الإقليميين، وفي مقدمتها تركيا. فأي سقوط لها في الامتحان، سقوط لحلفائها أيضاً. الولايات المتحدة، وبالتعاون والتنسيق المباشر مع كل من بريطانيا وإسرائيل، تعيد تعريف كل تفاصيل الجغرافيا السياسية في المنطقة، وتفرض سياقات ومسارات مغايرة تتعارض مع مصالح تركيا وإيران.
التحول الكبير في مضمون القرار 2799، يتعدى إدماج سوريا في المجتمع الدولي، فهو يضع الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية في قلب التوازنات والحراك الدولي والإقليمي، لتضطلع بدور أوسع، تتجاوز فيه “الفيتو” التركي وإمكانية الصدام معها. بل يمنحها “حصانة دولية وإقليمية” لترسم معالم خرائط جديدة تتشكّل خارج إرادات الدول الإقليمية مثل تركيا وإيران.
لقد فقدت تركيا القدرة على تهديد شمال وشرق سوريا ضمن المناخ المتشكَّل بعد انهيار النظام السوري السابق، وإعادة بناء تحالفات واصطفافات جديدة، والقرار 2799 وضع حداً لنفوذ تركيا في سوريا على المستويين السياسي والعسكري بالدرجة الأولى، مقابل تدرج الإدارة الذاتية و(قسد) في نيل “الشرعنة”، وقدرتها على كسر “الفيتوهات” التركية، لتنطلق نحو فضاءات أرحب من الدبلوماسية والتعامل الندّيّ مع مختلف الدول، وفي مقدمتها الدولة السورية. القرار 2799 أكد على حقيقة ثابتة؛ أن سوريا لم تعد ساحة للمغامرات التركية، ومناطق شمال وشرق سوريا والإدارة الذاتية لم يعد بمقدور تركيا ليَّ عضدها من خلال قصف بمسيرة أو هجوم من قبل مرتزقتها هناك، وملف الإرهاب لم يعد بإمكان أنقرة ابتزاز الحلفاء بها وفشلت في امتلاكها الحق الحصري في مكافحتها، بعد أن تكشَّف لدول التحالف احتضانها لقوى الإرهاب وتغذيتها الدائمة لها.
إن القرار 2799، وفي جوهره يعبّر عن إعلان جديد لدولة سورية لا مركزية، بل يحدّد إطاراً لمجموعة مراكز، في الجنوب، الساحل، الوسط، إلا أن الأكثر إثارة هو في مناطق شمال وشرق سوريا، حيث ستغدو نقطة ارتكاز لمشروع أوسع، لتعيد تجميع أوصال سوريا الممزَّقة وفق صيغة جديدة لا مركزية وقد تتطور إلى شكل من أشكال الفيدرالية الجغرافية، بعد أن ثَبُتَ لدى الجميع أن السلطة الراهنة تدفع باتجاه تفكيك سوريا وفق حسابات طائفية ومذهبية ضيّقة، وممارساتها اليومية تؤكد على نمط تفكيرها وأسلوبها في إدارة سوريا.
زيارة الرئيس السوري المؤقت “أحمد الشرع” للولايات المتحدة بعد صدور القرار، تأتي في سياق التزامه بتنفيذ بنود القرار الأممي، وتأكد بما لا يدع مجالاً للشك لدى الإدارة الأمريكية بأن مفتاح الانتقال إلى الممارسة العملية لتنفيذ بنود القرار في الواقع يمر عبر التوافق مع قوات سوريا الديمقراطية، وهو ما أوضحه المبعوث الأمريكي إلى سوريا “توم باراك” في حديثه الهاتفي مع القائد العام لـ(قسد) الجنرال “مظلوم عبدي”.
إن كان القرار 2254 قد رسم معالم سوريا المستقبل في ظل وجود النظام السوري البائد بعيداً عن النفوذ الإيراني والروسي؛ فإن القرار 2799 وضع النقاط على الحروف وأعاد ترتيب الخارطة السياسية والعسكرية السورية وفق متطلبات مرحلة ما بعد النظام السابق وبعيداً عن النفوذ التركي وهيمنتها على القرارات السورية، ويمكن القول إنه وضع معالم تحرير سوريا من الإملاءات التركية، لينهي احتلالها لأراضيها الذي طال أمده.
تركيا المتخوفة من ترتيبات المشهد السياسي والعسكري السوري، تحاول وضع العصي في عجلات أي تقدم سوري، وتستميت بربط سوريا معها عبر الاتفاقات والتفاهمات البينية، وعبر تحريك أذرعها ضد مناطق شمال وشرق سوريا والإدارة الذاتية، وخلق الذرائع لشن عدوان عليها، لكنها تصطدم بالرفض الأمريكي والغربي عموماً. فيما أي محاولة تركية لإشعال جبهات شمال وشرق سوريا مجدداً قد تتطاير شظاياها إلى الداخل التركي، وتنهي عملية السلام وتعيد تركيا برمتها إلى المربع العنفي الأول، وتضعها أمام مصير مجهول.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى