من منشأة إلى ملحمة: سد تشرين ومعنى التحرر في سوريا

قاسم عمر
في قلب ريف منبج، على ضفاف الفرات التي شهدت حضارات وانتصارات، وقف سد تشرين، لا كمجرد منشأة مائية، بل كجدار صلب صدّ عنه طوفان الغزو وهمجية المرتزقة. لم يكن هجوم التنظيمات الإرهابية والاحتلال التركي على السد وليد الصدفة؛ كان هدفاً استراتيجياً ومدروساً. فسد تشرين لم يكن فقط مفتاحاً للطاقة والمياه، بل كان رمزاً لصمود الشعوب الحرة في شمال وشرق سوريا.
الهدف من الهجوم: خنق الحياة وكسر الإرادة
اندفعت جحافل المرتزقة، بدعم مباشر من أنقرة، نحو السدّ بعقلية استعمارية واضحة. لم يكن هدفهم فقط السيطرة على منشأة حيوية، بل محو نموذج الإدارة الذاتية، وضرب أمن واستقرار المناطق التي تحررت من داعش. أرادوا أن يطفئوا نور الكهرباء الذي ينير منبج وكوباني، وأن يخنقوا الحياة التي بدأت تتفتح بفضل الإرادة المشتركة للشعوب.
عندما بدأ مسلحو هيئة تحرير الشام بالتقدم نحو حلب، رأت تركيا أن تقوم بدفع مرتزقتها المقربين منها نحو مناطق الإدارة الذاتية. واستطاعت السيطرة على منطقة الشهباء وبعدها منبج. لكن هنا كانت المفاجئة الكبيرة، حيث السد، طيلة شهور خلت، حاولت تركيا بكل عتدتها وعتادها بالتقدم واحتلال السد، لكن مقاتلو قسد وقفوا بوجههم كأسود لا تهاب الموت ولا تخافه. واستطاعت التصدي لهجماتهم الشرسة، مقدمين أرواحهم الطاهرة فداءً لشعوب المنطقة.
ضف على ذلك، أنه ما لم يحسب له الغزاة، أن سد تشرين لم يكن محمياً فقط بالجدران الخرسانية، بل بإرادة لا تُكسر.
مقاومة الأهالي والمقاتلين: نار من غضب، وسور من صمود
حين تقدمت قوات الظلام نحو السد، لم تكن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وحدها في الميدان. كان إلى جانبهم رجال ونساء، فلاحون، معلمون، وحتى صغار وكبار السن، كلّهم حملوا السلاح وقدّموا الدعم، فكل حجر في تلك الأرض يعرف معنى الحرية. حيث قدم العشرات من الأهالي أرواحهم في سبيل حماية مكتسباتهم من رجس الاحتلال. بافي طيار، عكيد روج، ناظم وجيهان والعشرات أمثالهم كتبوا التاريخ بدمائهم الزكية، وسطروا آيات المقاومة بعزيمتهم وصمودهم في تلك الليالي الباردة.
وفي الليالي الباردة أيضاً، حيث كانت السماء تتوهج بنيران القصف، وقفت المقاتلات على التلال، بعيون تترصد وعزيمة لا تلين، يقولون: “لن يمروا”.
كانت المعارك عنيفة، ضارية، لكن الشجاعة كانت أقوى من الطائرات المُسيّرة، وأشدّ بأساً من جحافل المرتزقة.
المقاتلة ” روناهي يكتا” كانت واحدة من رموز هذه المعركة، سطّرت ملاحم في الدفاع عن السد، وقالت يوماً: “لن نترك نهر الفرات يُغرقه الظلام، دمه دمنا، وماؤه حياتنا”. فكانت كلماتها شعاراً لكل مقاوم ومقاومة.
الانتصار في تشرين: شرارة التحرير وأثره في شمال وشرق سوريا
مع انكسار الهجوم وتراجع المرتزقة أمام صمود المقاتلين والأهالي، لم يكن النصر في سد تشرين مجرد انتصار عسكري؛ كان إعلاناً مدوياً بأن الشعوب المنظمة بقوة الإرادة تستطيع أن تهزم أعتى أدوات الاحتلال والإرهاب.
تحوّل سد تشرين من هدف للسيطرة إلى رمز للتحرير. بعد صده عن الغزاة تدفقت روح الثقة في نفوس الناس، وانتصرت إرادة الشعوب، وأثبتت لنا أن حرب الشعب الثوري يستطيع أن يدحر أكبر القوى وأشدها فتكا. فالتضامن الشعبي تحت قصف المسيرات التركية، وتقديمهم لأرواحهم، زرع في نفوس المقاتلين إرادة صلبة لمواجهة العدو المغتصب.
بل أكثر من ذلك، أصبح هذا الانتصار منعطفاً حاسماً في تثبيت مشروع الإدارة الذاتية. العالم نظر إلى سد تشرين ورأى فيه ما هو أكبر من منشأة: رأى فيه إثباتاً على أن نموذج المقاومة والتنظيم قادر على الاستمرار، مهما عظمت التهديدات.