في خفايا حضور “الشرع” اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة

محمود علي
تابع معظم السوريين عبر الشاشات العملاقة التي نصبت في الساحات العامة، كلمة الرئيس المؤقت “أحمد الشرع” أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد نحو ستين عام من عدم حضور أي رئيس سوري ذاك المنبر الأممي. ولكن بعيداً عن الشكليات والرمزيات، ما هي دلالات وأبعاد مشاركة “الشرع” في تلك الاجتماعات، وهل شكلت انفتاحاً على المجتمع الدولي، أم جمعت متناقضات مع بعضها، إن استُحضِرَ ماضيه وتمت مقارنته مع حاضره؟ ينبغي قراءة زيارته للولايات المتحدة، وحضوره ذاك المنبر العالمي من خلال النتائج التي حققتها، دون تدليس أو تحامل، بل وفق رؤية منصفة ومنطقية، بعيدة عن التجاذبات السياسية والمواقف المتسرعة.
بداية لما كانت الزيارة وحضوره قد تم لولا الوساطات التي قامت بها كل من قطر، السعودية وتركيا، حتى أن حصوله على فيزا الدخول إلى الولايات المتحدة تمت بطرق مواربة وملتوية، ولم يدخل أراضيها بصفته الرسمية كرئيس دولة معترف به، بل دخلها كشخص عادي، لا يملك أي حصانة رئاسية مثل باقي رؤساء العالم. وفي هذا الإطار ذهبت بعض وسائل الإعلام الأمريكية إلى طرح مسألة اعتقاله من منطلق إدانته بقتل جنود أمريكيين في العراق في عام 2003. إلا أن شكل الحضور يطرح إشكالية كبيرة ربما تغدو في قادم الأيام قاعدة أساسية لدى الدول الغربية في أسلوب وآليات التعامل مع الحكومة السورية المؤقتة، وتكاد تكون أشبه بأساليب الاستخبارات منها إلى البروتوكولات الدبلوماسية المتَّبعة بين الدول وفي كيفية حضور المحافل الدولية والإقليمية. وهي في ذات الوقت تنسف مصداقية الحكومة السورية المؤقتة وشرعيتها أمام المجتمع الدولي. والمشهد الذي تابعه السوريون أثناء إلقاء “الشرع” كلمته شعر معه الجميع بالمهانة والتقليل من شأن سوريا، عندما انسحبت غالبية وفود الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على انعدام الثقة، وعدم الاكتراث لما سيقوله. هذا فيما غلب الطابع الإنشائي على كلمته، حيث استرسل فيها ليُعدِّدَ “الإنجازات” التي حققتها سوريا منذ استلامه السلطة، كما خلت الكلمة من أي مضامين ومعاني تشير إلى إجراء تحول ديمقراطي في البلاد، وإشراك كل المكونات في إدارتها، واتخاذ قراراتها المصيرية؛ بل لم يأتِ على ذكر مفردة “الديمقراطية” مطلقاً، وهو ما أثار امتعاض الحضور ودعاهم للخروج من القاعة أثناء إلقائه لكلمته.
واجه “الشرع” خلال زيارته مواقف حرجة جداً لم يتمكن حتى وزير خارجيته التغطية عليها عبر حركاته التي بدت أشبه بحركة ضابط أمني منه إلى وزير خارجية، فكانت حركاته وتنقلاته داخل أروقة مبنى الأمم المتحدة، وكذلك في البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية، بعيدة كل البعد عن البروتوكولات الدبلوماسية المتعارَف عليها في الاجتماعات، وبدا مرتبكاً لا يجيد التصرف بحكمة كرئيس يمثل دولة، حتى ضحكته أثناء حواره مع الجنرال ديفيد بيترايوس بدت ساذجة وطفولية، وتنم عن جهل وتهرب من الأسئلة الحرجة التي طرحها عليه بيترايوس، والتي أعاده فيها إلى العراق مرة ثانية وإلى زمن “أبو مصعب الزرقاوي”.
كذلك اللقاءات التي أجراها مع كل من الرئيس الأمريكي ترامب ووزير خارجيته روبيو، تركزت في مجملها على ضرورة التوصل إلى اتفاقية أمنية مع إسرائيل، والعمل بشكل جاد على التوافق مع قوات سوريا الديمقراطية، وإشراك كل المكونات السياسية في إدارة سوريا، مع وضع حل لملف ما يسمى “الجهاديين الأجانب”، إضافة إلى تطبيق العدالة الانتقالية ليس على “فلول النظام” فقط، بل كل من له يد في المجازر التي وقعت في الساحل السوري والسويداء وباقي المدن السورية. الرئيس الأمريكي الذي يتعامل مع قضايا الشعوب والدول وفق منطق تجاري بحت، يدرك جيداً أن تعويم “الشرع” وزمرته من قبل قطر، السعودية وتركيا، يجب أن يتقاضى مقابلها فوائد كثيرة، أقلها تطبيق اتفاقية مع حليفها الأول والأخير في الشرق الأوسط إسرائيل، والتي قال عنها توم باراك أنه ليس لدى الولايات المتحدة حليفاً غيرها. كما قال في حديث لإحدى وسائل الإعلام إن “ترامب لا يريد تقديم إملاءات أجنبية على سوريا، وإنما سيمنح كل منطقة حق تقرير مصيرها”، وهذا ما يشير إلى نوايا لدى الولايات المتحدة في قبول اللا مركزية أو الفيدرالية، ليعود باراك ويناقض هذا الكلام، ويدعي أن سوريا بحاجة إلى دولة مركزية، غير أنه أكد من جانب آخر أن الاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية سيُنجز حتى آخر العام، ولا يدري أحد على ماذا يستند باراك في تفاؤله الملغوم هذا، حيث بات موضع شك من قبل كل السوريين.
حاول “الشرع” خلال تواجده في الولايات المتحدة، وبدعم من باراك وتركيا، القفز فوق استحقاقات التوصل إلى اتفاق مع الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، معتقداً أن عودته إلى المجتمع الدولي من البوابة الأمريكية، ستمكنه من ترسيخ أسس نظامه في سوريا، متجاهلاً كل المطالبات الداخلية بتغيير الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية، وأنه مُنِحَ الضوء الأخضر من أكبر قوة في العالم ليفعل ما يشاء في الداخل. وهذا ينم عن تفكير ضحل وسطحي يودي بصاحبه إلى الوقوع في أخطاء وأزمات متلاحقة، وحينها ستنفض كل القوى والأطراف الداعمة له الآن؛ يدها عنه، ليذوي ويفقد كل ما كسبه خلال الفترة الماضية، ويكون آيلاً للسقوط. البروباغاندا الإعلامية السخيفة التي سيرها الموالون له في الداخل، والتي حملت في معظمها الوعيد والويل والثبور لكل الأطراف التي تعارضها ولا تتوافق مع رؤيتها الأحادية، إنما تمثل حالة شعبوية لا تقدم ولا تؤخر، ولا تصنع حاضنة شعبية واعية، وهذه الحالة المعدية انتقلت إلى فئة في الولايات المتحدة، والتي واجهت تظاهرات خرجت ضد زيارة “الشرع”، حيث استخدموا أساليب بذيئة لا ترقى إلى مستوى الثقافة السائدة في الدولة التي يعيشون فيها.
الكل يتساءل هل سيعمد “الشرع” بعد عودته من الولايات المتحدة، إلى فتح مواجهة مع قوات سوريا الديمقراطية، معتقدين أنه سيعود محملاً بقوة ودعم المجتمع الدولي وخاصة الولايات المتحدة. الحقيقة الراسخة أن أي مواجهة لن تكون بتلك السهولة، وقرار البدء بها من عدمها مرتبط بالمايسترو الأمريكي بالدرجة الأولى، وليس حتى تركيا، والأمريكي لا يجد له أي مصلحة في إضعاف شريكه الأساسي في الحرب على الإرهاب، أي قوات سوريا الديمقراطية، لطالما أن التهديد الإرهابي لا يزال قائماً، بل يضرب بأطنابه طول البلاد وعرضها، وتدرك الولايات المتحدة جيداً أن الحكومة السورية تأخذ وضع المزهرية من الضربات التي يشنها تنظيم “داعش” الإرهابي في مختلف المناطق، بل أشرك بعضهم في الهجمات على السويداء، حتى أن طيران التحالف استهدف بعض العناصر والقيادات للتنظيم في مناطق سيطرة الحكومة السورية، مثل حلب وحماة وإدلب في الآونة الأخيرة.
الثابت أن “الشرع” سيعود من نيويورك بِخُفَيْ حُنَيْنٍ، ولم يحقق أي إنجاز حقيقي سوى الاستعراض والتباهي بحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، سوى التوقيع على الاتفاقية الأمنية مع إسرائيل، وبالتأكيد لن تكون اتفاقية ندّية، تحفظ فيها مصالح الشعب السوري، أو تُرفَض فيها الشروط الإسرائيلية المذلة. كما أن تشديد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على ضرورة إشراك كل السوريين في إدارة البلاد، ما هو إلا تأكيد على أن هناك تمثيل أحادي في سوريا، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر ومراجعة كل الخطوات التي أقدمت عليها الحكومة الحالية، من الإعلان الدستوري، وتشكيل الحكومة المؤقتة، ومن ثم الشروع فيما تسمى “انتخابات مجلس الشعب”، وهي بمجملها تشكل امتحاناً للحكومة الحالية للبدء بمرحلة جديدة عنوانها المصالحة مع جميع المكونات، وفتح المجال أمام تشبيك كل عناصر الوحدة الوطنية في خدمة إعادة الأمن والاستقرار إلى سوريا، وهو غائب ويبحث عنه السوريون. حيث لم تنقشع بعد تلك الغمامة المخيفة عن صدور السوريين برحيل النظام البائد، بل ما يزال الخوف والقتل والاختطاف يلاحق السوري أينما ذهب.
إن مفتاح الحل في سوريا يبدأ بالمصالحة والاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، بعد أن غدت موضع مصداقية وأمل كل المكونات السورية، وهو ما تتجاهله الحكومة الحالية، إن كان عن قناعة، أو بسبب الضغوط الخارجية وخاصة التركية، ولكن لا مناص من إعادة فتح كل قنوات التواصل معها، هذا إن كانت فعل تسعى إلى قطع دابر التوترات السائدة في الشارع السوري، وتبدّد مخاوف الناس من المستقبل، فهل ستسمع صوت العقل وتراجع نفسها وتُقدم بكل جرأة إلى الدعوة إلى استئناف الحوار والمفاوضات من الموضع الذي توقفت عنده، أم ستذهب وراء أهوائها وتضيّع الفرصة؟ هذا ما ستثبته الأيام القليلة القادمة.