حـ.ـركة حـ.ـرية كردسـ.ـتان في قفـ.ـص الاتـ.ـهام

محسن عوض الله
مع تواتر الأنباء عن نية حزب العمال الكردستاني حلّ نفسه، ووضع السلاح جانبًا؛ جاءت ردود أفعال قطاع كبير من التيارات والقوى والنشطاء الكرد لتكشف حجم الأزمة التي تعيشها الأوساط الكردية.
أثار قرار الحزب موجة من الجدل داخل الأوساط السياسية الكردية والإقليمية. وبينما رحّب البعض بالخطوة بوصفها مدخلًا ضروريًا لحل سياسي شامل، تصاعدت أصوات معارضة من تيارات طالما هاجمت الحزب بسبب نهجه المسلح، لكنها اليوم لم تتردد في مهاجمته مجددًا، بحجة أنه تراجع عن “النضال” أو “تنازل” عن ثوابت القضية.
بدا وكأن المواقف المسبقة تجاه الحزب أقوى من أي تغيير فعلي في سلوكه، وأنه، في نظر الكثيرين، لا يُمنح أبدًا فرصة الخروج من قفص الاتهام، حتى عندما يخطو خطوة في اتجاه السلام.
جاءت بعض التعليقات لتؤكد أن الحزب، مهما فعل، سيظل حبيس قفص الاتهام. فهو المتهم الدائم، الذي لا ينجو من النقد سواء قرر القتال أم اختار السلام. ناضل فاتهموه بتخريب الاستقرار، وضع السلاح فاتهموه ببيع القضية.
المفارقة أن من هاجموه بالأمس بسبب الكفاح المسلح، هم أنفسهم من يهاجمونه اليوم بسبب خيار التهدئة. وكأن المطلوب ليس اتخاذ موقف صائب، بل البقاء في مرمى النيران.
لسنوات طويلة، كان يُنظر إلى حزب العمال الكردستاني كـ”عبء ثقيل” على الكرد في العراق وسوريا وتركيا. عوقب لأن مقاتليه تمركزوا في جبال قنديل، واتُّهم بأنه يجلب الخراب للقرى الحدودية.
قيل إنه يمنح أنقرة ذرائع للتدخل والقصف، ويهدد استقرار المنطقة. لكن الغريب، بل المؤلم، أن تركيا لم تكن يومًا بحاجة إلى مبررات لضرب شنكال، أو اجتياح مخمور، أو مطاردة الناشطين الكرد في أوروبا. فبمجرد أن تنطق بكلمة “كردستان”، تُصبح في عرفها مشروعًا إرهابيًا يجب سحقه.
واليوم، بعد أن اختار الحزب مراجعة تجربته المسلحة، والإصغاء لنداءات وقف القتال، عاد الهجوم من ذات الأصوات التي طالما دعته إلى التهدئة. قالوا إنه “باع القضية” و”انحرف عن مسار النضال”.
وهنا تبرز المعضلة: فالقضية الكردية، في نظر البعض، لا تحتمل السلاح، ولا تقبل السلام!
المؤسف أن الطعن لم يأتِ من الخصوم وحدهم، بل من أحزاب كردية، وشخصيات كانت تُحمّله مسؤولية كل شيء. اختلفوا معه في الفكر والتنظيم والنهج، فحمّلوه عبء الاحتلال التركي، واعتبروه سببًا في تعثر مشروع الدولة الكردية. لكن الحقيقة التي يتجاهلها كثيرون هي أن أزمة الكرد لم تبدأ مع حزب العمال، ولن تنتهي عنده.
الأزمة أعمق من تنظيم بعينه. إنها أزمة غياب مشروع وطني جامع، أزمة تضارب الولاءات، واصطفاف خلف العواصم الإقليمية بدلًا من الاصطفاف خلف الشعوب.
حزب العمال الكردستاني، كيان له ما له وعليه ما عليه، وقد شكّل ركيزة أساسية في تسليط الضوء على المأساة الكردية. سواء اتفقت معه أو اختلفت، فإن قراره الأخير ليس استسلامًا، بل مراجعة ناضجة لتجربة كلفت آلاف الأرواح. مراجعة تستحق الاحترام، لا التهكم.
قرار وضع السلاح إن صح هو قرار داخلي لحزب العمال، وهو وحده من يتحمل تبعاته، ويجب احترامه حتى من خصومه، خاصة أن هذا الحزب نفسه هو من قدّم آلاف الشهداء في محطات مفصلية، وتاريخه يمنحه الحق في تقرير مصيره، لا أن يُملى عليه ما يفعل.
ويبقى السؤال الأهم: هل نريد فعلًا حلًا سياسيًا عادلًا؟ أم أننا بحاجة دائمة إلى عدو نعلّق عليه خيباتنا، ونبقيه داخل قفص الاتهام إلى ما لا نهاية؟