سوريا بعد سقوط النظام: بين الإرهاب وتخاذل الحكومة المؤقتة

قاسم عمر
منذ سقوط النظام السوري السابق، دخلت البلاد في نفق مظلم من الفوضى والانهيار الأمني، ما جعلها بيئة خصبة لتنامي الجماعات الإرهابية وانتشار العنف المنظم. لم يعد المشهد السوري يقتصر على صراع سياسي أو حتى عسكري بين أطراف النزاع، بل تحوّل إلى حالة شبه دائمة من القتل على الهوية والمجازر اليومية، التي تُرتكب دون رادع أو محاسبة.
أضحت المناطق السورية مسرحاً مفتوحاً لانتهاكات جسيمة، سواء على يد تنظيمات متطرفة أو ميليشيات مدعومة من قوى إقليمية. ومع الأسف، فإن الحكومة السورية المؤقتة، التي يفترض أن تكون البديل المدني والإداري في هذه المناطق، لم ترتقِ إلى مستوى التحديات الأمنية والإنسانية. غابت الإرادة السياسية وتلاشت أدوات الردع، لتتحول هذه الحكومة في نظر الكثيرين إلى كيان صوري لا يملك القرار، ولا القدرة على حماية المدنيين.
من أبرز المحطات السوداء التي تؤكد هذا العجز الممنهج، مجازر الساحل السوري، التي راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء بذريعة “ملاحقة فلول النظام السابق”. جُرفت تلك الجرائم تحت سجادات النسيان دون فتح تحقيقات جدية أو تقديم الجناة للعدالة، مما أعطى مؤشراً خطيراً على تغاضي الجهات الحاكمة فعلياً عن جرائم الحرب والانتهاكات المستمرة.
في الوقت الذي يُفترض فيه أن تسعى الحكومة السورية المؤقتة إلى فرض الاستقرار وبسط سلطة القانون في مناطق سيطرتها، نجد العكس تماماً. فالمناطق الخاضعة لنفوذ الاحتلال التركي، لا سيما عفرين ومحيطها، أصبحت مرتعاً للفصائل المسلحة والمرتزقة الذين يمارسون الانتهاكات بشكل يومي بحق المدنيين، وخاصة من المكون الكردي. ورغم وجود أجهزة أمنية تابعة لما يسمى بـ”الأمن العام”، فإن هذه الأجهزة تبدو عاجزة – أو غير راغبة – في التصدي لهذا الفلتان المنظم.
الجريمة البشعة التي طالت الشاب الكردي مصطفى جميل شيخو، لم تكن استثناءً بل جزءًا من سلسلة طويلة من عمليات القتل، النهب، والاعتداءات الطائفية والعرقية. اللافت في هذه الحادثة وغيرها، هو صمت الحكومة السورية المؤقتة، وعدم إصدار أي موقف واضح أو حتى بيان إدانة يرقى لحجم الجريمة. إن هذا الصمت الرسمي لا يمكن تفسيره إلا كتواطؤ، أو في أحسن الأحوال كفشل ذريع في أداء أبسط مهام الحكم والإدارة.
وبات الفلتان الأمني سمة عامة في عموم الأراضي السورية، حيث تحوّلت حياة الناس اليومية إلى كابوس دائم، وسط غياب القانون، وانتشار السلاح، وسيطرة جماعات تتبع لأجندات خارجية لا تمت بصلة لمصالح السوريين.
في خضم هذا المشهد الدموي، لم تسلم دور العبادة والرموز الدينية من بطش الإرهاب. فقد شكّل الاعتداء الإرهابي على كنيسة مار إلياس محطة مأساوية جديدة، حيث سقط عشرات المدنيين العزل ضحية لهذا الهجوم الذي تبنته جماعة متطرفة تُدعى “سرايا أنصار السنة”. وعلى الرغم من وضوح دوافع الجريمة الإرهابية، فإن وصف الحكومة السورية المؤقتة للعملية بـ”الانتحارية” بدلاً من تسميتها بما هي عليه – جريمة إرهابية – يكشف عن حالة من الإنكار أو ربما محاولة للتقليل من خطورة التهديد المتصاعد.
هذا التلاعب بالمصطلحات لا يخدم إلا الجناة، ويكرّس رواية التبرير والتطبيع مع العنف، بل ويفتح الباب أمام موجات جديدة من الاستهداف، خاصة في بلد يزخر بتنوعه الديني والعرقي. إن مثل هذه الاعتداءات لا تهدد فقط الأرواح، بل تهز أسس العيش المشترك، وتقوّض أي فرصة لإعادة بناء سوريا على أسس العدالة والمواطنة.
الهجوم على الكنيسة ليس حادثًا معزولًا، بل يأتي ضمن سلسلة طويلة من الاستهدافات الطائفية التي تغذيها جماعات متطرفة تجد في الفوضى بيئة خصبة للنمو والانتشار، بينما يغيب الرد الرسمي الحقيقي، وتكتفي الجهات المسؤولة بإصدار بيانات باهتة لا ترقى لحجم الكارثة.
إن قراءة متأنية لمجمل المشهد السوري بعد سقوط النظام تُظهر بوضوح أن الحكومة السورية المؤقتة لم تفشل فقط في أداء واجباتها، بل إنها أصبحت بوعي أو دون وعي – طرفًا غير محايد في معادلة العنف والفوضى. إذ إن السكوت عن الانتهاكات، وتجاهل الجرائم بحق المدنيين، والعجز أمام الفلتان الأمني، لا يمكن أن يُفهم إلا كنوع من الرضى الضمني أو حتى الدعم المبطن لهذه الممارسات.
إن الحكومة التي تتقاعس عن محاسبة من يرتكب المجازر، أو عن حماية الأقليات، أو عن الوقوف ضد التنظيمات الإرهابية، لا تختلف كثيرًا عن تلك التي مارست الاستبداد لعقود. فالخطر اليوم لم يعد فقط في السلاح، بل في صمت من يفترض بهم أن يكونوا حماة الشعب، وفي تواطؤ المؤسسات التي يُفترض أن تمثل الثورة وأهدافها.
من هنا، فإن مسؤولية الحكومة المؤقتة لم تعد محصورة في الجانب الإداري أو الأمني، بل أصبحت مسؤولية أخلاقية وتاريخية. فإما أن تنهض بدورها الحقيقي في حماية وحدة البلاد وتنوعها، أو أن تعترف بعجزها وتترك المجال لقوى جديدة تحمل مشروعًا وطنيًا حقيقيًا، يليق بتضحيات السوريين وآمالهم في دولة عادلة وآمنة.