هل ستكون إسطـ.ـنبول المحطة الثانية بعد الـ.ـدوحة؟

محمود علي
شكلت الغارات الإسرائيلية على اجتماع وفد “حماس” في العاصمة القطرية “الدوحة” تحولاً كبيراً في سياسة إسرائيل في المنطقة.
فإن كانت الضربات على إيران قد شُنَّت بذريعة تفكيك برنامجها النووي وإزالة تهديداتها لها، وقبلها وجّهت ضربات قاصمة لأذرعها في لبنان والمنطقة عموماً، فإن ضربة الدوحة تعد امتداداً للرد على 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ومحاولة لإنهاء “حماس” ليس داخل جغرافية فلسطين فقط، بل باتت تخطط لتجفيف كل منابع “حماس” في الخارج أيضاً، غير آبهة بردود الفعل والارتدادات السياسية لضرباتها.
والمثل الدارج “الضربة التي لا تقتلك تعزز قوتك” يسري على إسرائيل بعد 7 أكتوبر، ولن نذهب بعيداً لنفكر وفق “نظرية المؤامرة”، ولكن عملية “حماس” قدمت خدمات جليلة لإسرائيل ربما لم تكن تحلم بها مطلقاً، أو على الأقل تمكنت من تدوير نتائج العملية، والبدء بمرحلة إستراتيجية جديدة عنوانها الرئيس؛ ليس القضاء على “حماس” وكل من يستهدفها فقط؛ بل التمدد في المنطقة وتنفيذ مشروعها التوراتي “من النيل إلى الفرات” والمتمثل حالياً بمشروع “ممر داود”.
تصريحات المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين حول استمرار عملياتها لاستهداف قادات “حماس” في الخارج، بغض النظر عن أماكن تواجدهم، أثارت مخاوف تركيا، وهي تدرك قبل غيرها أنها ربما تكون المحطة الثانية للضربات الإسرائيلية.
ليأتي الرد التركي الرسمي من خلال مستشار الرئيس “أوكتاي سارال”، الذي رد على التهديد الإسرائيلي بلهجة تحمل تصعيداً مكشوفاً في الخطاب الإعلامي بين الطرفين، حيث قال موجهاً كلامه لأحد المسؤولين الإسرائيليين “من الواضح أنك لا تعرف تركيا والأمة التركية! يجب أن تعلم ذلك! سينعم العالم قريباً بالسلام بعد أن تُمحى من على الخريطة، إن كنت تتساءل “من سيفعل هذا؟”، فهي الدولة التي تخطط لمهاجمتها غداً!”.
إعلامياً؛ يبدو للمتتبع لمسار التوتر بين الجانبين التركي – الإسرائيلي، أنهما على شفا حرب، ولكن الوقائع على الأرض تدحض كل ذلك.
فالصراع بينهما على الجغرافيا السورية وصل إلى مرحلة انبرت إسرائيل إلى رسم خطوط حمراء أمام امتداد النفوذ التركي، وخاصة في المجال العسكري.
فغداة زيارة ما يسمى قائد القوى الجوية السورية تركيا، شنت إسرائيل عدة غارات عنيفة على عدد من المطارات ومراكز الدفاع الجوي السورية، بعد أن تأكدت وصول تعزيزات وأسلحة تركية حديثة إليها، وهو ما يعزز من فكرة أن إسرائيل تراقب عن كثب تطور العلاقة العسكرية بين تركيا وسوريا، وتنقض على كل ما تبنيه الأولى على الجغرافيا السورية.
وكلام مستشار أردوغان في جانب كبير منه يحمل رداً على استمرار إسرائيل في تقويض المشروع التركي في سوريا.
رغم يقين الكل أن لعبة تركيا مكشوفة ولا تنطلي على أحد، فبات معروفاً أن أردوغان يملك القدرة الفائقة على الاستدارة والانقلاب حتى على أقرب حلفائه، وإيهام الرأي العام بأنها “مُستهدَفة من قبل إسرائيل” لا يغدو أكثر من توزيع للأدوار بينهما على استكمال مشروع تقسيم المنطقة، وخاصة سوريا.
وما تشهده تركيا من انفجار أولي في الداخل ما هو إلا بسبب سياسات أردوغان في الاستئثار بجميع مفاصل السلطة والقرار، وهو ما حدا به ليخسر ذاك الزخم من التأييد بين المجتمع التركي، فضلاً أن سياساته الخارجية في التدخل بشؤون معظم دول الجوار، شكلت بمجموعها أزمة داخلية وخارجية تهدد نظامه.
فبات يبحث عن مبررات لتصدير هذه الأزمة للخارج كما في كل المرات، عبر شن الحروب والتدخل في أراضي دول أخرى، ومن بينها إعادة إطلاق التصريحات النارية بشن عدوان جديد على مناطق شمال وشرق سوريا.
فإن كان القطب الأساسي للدولة العميقة في تركيا المتمثل برئيس حزب الحركة القومية الفاشي “دولت باهجلي” قد استقرأ الخطر المستقبلي على تفكك تركيا وأن الإعصار القادم سيصل تركيا لا محالة، وبادر إلى فتح حوار مع القائد الكردي “عبد الله أوجلان”، ومن ثم تطورت المحاولة إلى طرح مبادرة سلام لحل القضية الكردية، فإن تركيا اليوم أحوج ما تكون إلى المصالحة مع نفسها والشروع بحل القضية الكردية وفق أسس عادلة وديمقراطية، وإبداء انفتاح ديمقراطي داخلي عبر إطلاق الحريات والبدء بإجراء تعديلات دستورية بخصوص القضية الكردية.
على العكس من ذلك؛ ما ورد بين ثنايا سطور مستشار أردوغان يشير إلى مرحلة مواجهة بين إسرائيل وتركيا، وهو في الأساس موجه إلى الداخل التركي كرسالة تهديد أكثر مما هو موجه لإسرائيل.
إن كانت تركيا لا تزال تراهن على ورقة “الإخوان المسلمين” التي تآكلت وصدأت كثيراً في المنطقة، وعلى قوة نفوذها في سوريا، فإن إسرائيل تجاوزت كل تلك القوى الوهمية، وأصبحت عابرة للجغرافيا، ولديها القدرة على تنفيذ ضربات حتى في عقر دارها.
ولكن هل فعلاً تركيا جادة في الذهاب إلى مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، أم هي مجرد ضغوط تمارسها على إسرائيل ومن ورائها الدول الغربية لتسمح لها بحصتها في الكعكة السورية؟
الواضح أن تركيا تلعب دوراً وظيفياً أكثر ما تمثل مصالحها في المنطقة، فهي طرف مشارك في وضع ترتيبات جديدة في المنطقة، ولن تضحي بالمكاسب التي حققتها، كما تزعم، في سبيل الحفاظ على العلاقة مع “حماس”، فلديها القدرة على المساومة عليها في أي وقت كان، ولها تجربة مماثلة مع “إخوان مصر” أيضاً، وربما يكون “إخوان سوريا” بعد “حماس”.
ولكن هذا لا ينفي أن تركيا غير مقبلة على مرحلة عاصفة، بل كل الوقائع تؤكد أن تفكير النخبة السياسية التركية لا يذهب أبعد من إطار الدولة القومية الواحدة، وهي أكبر العقبات أمام المشروع الغربي – الإسرائيلي الجديد في المنطقة، وهي غير قادرة على إجراء تغييرات بنيوية في الدولة والتخلي عن النمطية التي حافظت عليها طيلة أكثر من مئة عام من عمر دولتها.
فإن كان أردوغان وباهجلي قد استشرفا الخطر القادم على تركيا، وأعادا التذكير بالتحالف الكردي – التركي في “ملاذ كرد” قبل أكثر من تسعمئة عام؛ فإن قراءتهما لم تخرج عن سياق التمجيد بالبطولات التركي، دون إشارة إلى الدور الكردي في تحقيق الانتصار في “ملاذ كرد”، وهو ما يعيد للأذهان أن تركيا غير جادة في مشروعها لحل القضية الكردية.
فإن كانت ترى نفسها أحوج ما تكون إلى وحدة داخلية لمواجهة تحديات الخارج، وبدأت تباشيرها تظهر من خلال التهديدات المتبادلة مع إسرائيل، فإنها بالمقابل لم تعمد إلى أي خطوة من شأنها تعزز الثقة لدى الكرد بحل قضيتهم، وأولها إطلاق سراح الزعيم الكردي “أوجلان” ومعه جميع المعتقلين السياسيين، رغم قناعتها أن لدى “أوجلان” القدرة على تجنيب تركيا ويلات أي مواجهة خارجية.
على العكس من ذلك؛ تواصل تركيا إطلاق تهديداتها ضد الإدارة الذاتية، وتحرك أذرعها في سوريا للضغط على قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية في حملها على القبول بشروط حكومة دمشق، والتي هي في جوهرها شروط تركية صرفة، ما يفسر حالة الإفلاس السياسي لديها، وتفاقم أزمتها الداخلية وانفجارها.
وهي متخوفة جداً من محاولة إسرائيل استقطاب وجذب الكرد والإدارة الذاتية إليها، وسوف نتيجة منطقية غداً إن لم تعمد تركيا إلى تغيير سلوكها وتعاملها مع الكرد والإدارة الذاتية بشكل جذري، فبدلاً من أن تشرع إلى بناء علاقات ندية متكافئة مع الإدارة الذاتية وكسبها إلى جانبها والاعتراف بحقوق الكرد في سوريا المستقبل؛ فإنها تمارس سياسة الضغط والتهديد، رغم يقينها أنها لا تنتج سوى مزيداً من التشرذم والانقسام في الساحة السورية، وبالتالي فقدان تركيا لنفوذها.
إن أي مغامرة تركية في شن عدوان جديد على مناطق الإدارة الذاتية، سوف تقلب الآية عليها، وستهدد عملية السلام في تركيا، ما يعني مزيداً من الحرائق في الداخل المشتعل أصلاً، وهذا سيقوي عضد إسرائيل داخل تركيا وفي المنطقة أيضاً، فليس أمام تركيا إلا إبداء التنازلات للكرد، في باكور وروجآفا، والمصالحة معهم على أسس تضمن حقوقهم وتساعد في حماية تركيا من أي زلزال قادم.