أخبارمانشيت

نحو فلسفة سلام في الشرق الأوسط: عبدالله أوجلان أنموذجاً

تحليل: د. علي ثابت صبري

تحدث الدكتور علي ثابت صبري في مقال تحليلي لمركز آتون للدارسات مطولاً عن فلسفة القائد عبد الله أوجلان حول السلام في الشرق الأوسط، وعن الدور الريادي الذي يستطيع هذا القائد لعبه عند إطلاق سراحه، وكتب قائلاً: “تظل منطقة الشرق الأوسط محاطة بظلال الصراعات والاضطرابات لقرن وربع من الزمان، نتيجة للاتفاقيات والمعاهدات التي أُبرمت في القرن العشرين، وهي اتفاق سايكس بيكو 1916م، ثم معاهدة سيفر 1920م، انتهاءً بمعاهدة لوزان الآلام 1923. لقد تركت هذه المساومات بصمتها العميقة على شعوب ومجتمعات المنطقة، حيث أدت إلى تقسيمها لدول دون مراعاة للتنوع العرقي والديني والاجتماعي والثقافي، مما أدي إلى اشتعال الصراعات بشكل متقطع.

استكملت هجمة إعادة هيكلية المنطقة منذ عام 2010م، حيث شهدت المنطقة تصاعداً في التوترات والصراعات، وصولاً للتقسيمات الجديدة، وظهور قوي جديدة تنافس القديمة في منطقة الشرق الأوسط، وأصبح مصير شعوب المنطقة مهدد بتقسيم أشد وأقسى من التقسيم القديم. مما يعكس الحاجة الماسة إلي مشروع سلام دائم يعزز احترام الآخر، والتعايش والتشارك معه وليس الصدام، ومن الضروري أن يرتكز المشروع على تأسيس التعايش السلمي، وإعادة بناء الفرد ومن ثم المجتمع، في مسيرة هي الأهم في تاريخ مجتمعات وشعوب الشرق الأوسط في تاريخها الحديث والمعاصر، بل أكثر من هذا، مستقبلها الضبابي. لذا، سوف تُركز الورقة على توضيح مفهوم السلام ومصادره وفلسفته، وآراء المدارس الفلسفية، حيث كانت المسؤولة عن انتاج نظريات للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط، وصولاً إلى مشروع المفكر الكردي عبدالله أوجلان ( فليسوف السلام في الشرق الأوسط)، وعرض بعض التجارب المشابهة وما آلت إليه.

مفهوم فلسفة السلام

يُعد تعريف السلام من الإشكاليات المعقدة، مما يطرح تحدياً كبيراً أمام أي صياغة أي فلسفة سلام شاملة. إن النقاش حول ما يمكن أن يشكل فلسفة متكاملة للسلام يتداخل دائماً مع أسئلة أوسع تتعلق بمعنى الوجود الإنساني وغايته، أكثر من هذا، يفتح التعريف آفاقاً لفهم عملية بناء فلسفة للسلام. ويُمكننا التمييز بين نوعين من السلام: السلام السلبي، الذي يشير إلى الغياب النسبي للعنف والحرب، والسلام الإيجابي، الذي يتطلب وجود العدالة والعلاقات المنسجمة. كذلك يُمكن الإشارة إلى السلام التكاملي، والذي يعبر عن فكرة السلام تشمل الأبعاد الاجتماعية والشخصية.

لغوياً: هو اسم مُشتقّ من الفعل سَلِمَ، ويأتي بمعنى الأمان والنجاة ممّا لا يُرغَب فيه؛ فيُقال: سلِم من الأمر؛ أي نجا منه، والسلامة من الآفات هي النّجاة والتخلص منها، والسلام في مفهومه العريض يمكن أن يشمل عدة تعاريف؛ فالسّلام في الشرع لفظٌ تُراد به البراءة من العيوب.

اصطلاحاً: السلام في الاصطلاح لا يخرج عن المعنى اللغوي، فقد اتسع مفهوم السلام من السلام السلبي (أي غياب الحرب والنزاعات والصراعات) ليشمل السلام الايجابي ( أي غياب الاستغلال، وإيجاد العدل الاجتماعي)، وهناك علاقة ارتباطية بين السلام السلبي والسلام الإيجابي أي التوافق أو الاتفاق بعد انشقاق.

نشأة مفهوم السلام:

يُرجع العديد من المفكرين مفهوم ثقافة السلم إلى أفكار عصر النهضة الأوروبي والفلسفة الغربية في القرن السابع عشر، حيث ظهرت فلسفات جديدة تتناول العدل والسلم كبدائل للحرب والعنف، وهو ما ميز الحضارة الغربية آنذاك، وكانت أولي النظريات التي ساهمت في تطوير مفهوم السلم من إنتاج الفيلسوف بير ديبوس Pirr Dubis فى مؤلفه “انتهاء الحروب والمجادلات في مملكة فرنسا”. كذلك معاهدة ويستفاليا 1648 واحلال السلام الأوروبي، وبدء العلاقات السياسية والدولية.

ومع ذلك، يُعتبر مفهوم ثقافة السلم تاريخياً مرتبطاً بمعاهدة قادش للسلام 1258 ق.م. التي وقعت بين المصريين والحيثيين في منطقة الشرق الأوسط. هذه المعاهدة وضعت أسس السلام والتعايش السلمي، مما يُبرز أهمية المنطقة في تاريخ السلام. وبالتالي، يمكن القول إن جذور مفهوم السلام تعود إلى شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط، مما يعكس غنائه الثقافي وتاريخه الطويل في تعزيز قيم السلم والتفاهم.

الفلسفة ورسم مستقبل العالم

عبر التاريخ، أسهم العديد من الفلاسفة في تطوير فكر السلام، ويُعد إيمانويل كانط (1724-1804) صاحب المشروع الأبرز للسلام الدائم القائم على مبادئ الجمهورية والقانون الدولي وحقوق المواطنة العالمية. كذلك هناك فلاسفة آخرين مثل المهاتما غاندي، ومارتن لوثر، كينج جونيور، قادوا حركات سليمة لتحقيق العدالة والسلام. إلا إن الفلسفة الغربية نجحت في رسم ملامح حكم واستغلال العالم، بعد حلها محل الكنيسة، فأصبحت النظريات الفلسفية بديلاً لدور رجال الكنيسة ( فصل الدين عن الدولة)، ولكن كل النظريات التي نظمت وهيكلت المجتمع الأوروبي؛ لا تنطبق بالضرورة على الشرق الأوسط، ولكن استطاعت القوي المهيمنة أن تُسيطر على الشرق الأوسط عبر ترسيخ هذه النظريات، ومحو الحقيقة لدي شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط. لذا، يُعد مشروع السلام الأوجلاني نظرياً وعملياً كونه نابع من فليسوف شرق أوسطي، مناسب جداً لحل أزمات الشرق الأوسط وإنقاذه مما يُحاك له، على نحو ما سوف يتم توضيحه لاحقاً.

مفهوم السلام شهد تطوراً معاصراً مر بسبع مراحل:

1. المرحلة الأولي: اعتبر السلام ممارسة وسلوك في غياب الحروب، وينطبق ذلك على الصراعات العنيفة سواء بين الدول أو داخلها، كما في حالات الحروب الأهلية. هذه الفكرة عن السلام شائعة بين العامة والسياسيين على حدٍ سواء.

2. المرحلة الثانية: ركزت على السلام باعتباره توزاناً للقوة ضمن النظام الدولي، وغالباً ما يُشار إلى هذا التوازن بتوازن الرعب، حيث يعتمد على توازن عسكري يمتلك قدرات تدميرية بين معسكرين أو أكثر.

3. المرحلة الثالثة: تم التأكيد خلالها على نوعين من السلام: السلام السلبي الذي يمنع الحرب، والسلام الإيجابي الذي يسعي إلى منع العنف البنيوي داخل المجتمع.

4. المرحلة الرابعة: برز فيها مفهوم نسوي للسلام، حيث يُظهر العنف ضد المرأة، أنه لا يُميز بين وجود الحرب أو غيابها، مما يتطلب معالجة شاملة لهذه القضية.

5. المرحلة الخامسة: تم التركيز على فكرة العلاقة بين السلام والبيئة، حيث تُظهر الممارسات الرأسمالية تأثيراتها السلبية على البيئة، مما يعزز الحاجة إلى سلام بيئي.

6. المرحلة السادسة: شهدت تركيزاً على السلام الداخلي للإنسان، حيث يعتبر تحقيق السلام على المستوى الفردي ضرورياً لتحقيق السلام الشامل.

7. المرحلة السابعة: تم التأكيد فيها على حقوق الإنسان والانتهاكات، والعنف الموجه ضد الأطفال والمعاقين والفئات الضعيفة، مما أضاف بُعداً جديداً لمفهوم السلام، حيث أصبح مرتبط بالتنمية البشرية الشاملة، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية.

أما عن جوانب فلسفة السلام فتتمحور حول: أن تتضمن فلسفة السلام القيم والمبادئ مثل اللاعنف، والعدالة، والمساواة، والاحترام المتبادل، والتسامح، والتعاون. لأن هذه القيم من شأنها بناء علاقات سلمية وحل النزاعات بطرق سليمة. كذلك من الضروري تحليل أسباب الصراع، لأن سعي فلسفة السلام المستمر نحو فهم الأسباب الجذرية للصراعات سواء كانت سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو نفسية. لأنه مع فهم الأسباب يكون من الممكن تطوير استراتيجيات فعالة لمنع الصراعات وحلها. أضف أيضاً، رؤية السلام، والتي تقدم رؤي مختلفة لكيفية تحقيق السلام، بدءاً من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وصولاً إلى تغيير الذهنية وإعلاء القيم الإنسانية. أما الجانب الأخير فهو: السلام كعملية، حيث لا تعتبر عملية السلام حالة ثابتة، بل عملية مستمرة من التغيير والتحسين والتطوير، إنها تتطلب جهوداً متواصلة للحفاظ على السلام وتعزيزه.

فلسفة السلام في الشرق الأوسط

تتسم فلسفة السلام في الشرق الأوسط بتنوعها وتعقيدها، حيث تتأثر بالعديد من العوامل السياسة والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وتتركز ملامحها الرئيسية حول:

1. السلام كضرورة حتمية: يعتبر السلام ضرورة حتمية لتحقيق الاستقرار والازدهار للمنطقة، حيث أن استمرار الصراعات والحروب يعيق التنمية ويؤدي إلى خسائر بشرية ومادية فادحة.

2. العدالة كأساس للسلام: لا يمكن تحقيق سلام دائم إلا إذا كان قائماً على العدالة والمساواة بين جميع الأطراف، وإنصاف المظلومين، وضمان حقوقهم.

3. الحوار والتفاوض: يعتبر الحوار والتفاوض الوسيلة الأمثل لحل النزاعات والخلافات بين الأطراف المختلفة، والوصول إلى حلول توافقية ترضي الجميع.

4. المصالحة والتسامح: تتطلب عملية السلام مصالحة حقيقية بين الأطراف المتنازعة، وتجاوز الماضي، والتسامح مع الأخطاء، والتصالح مع التاريخ للشعوب التي ارتكبت ومازالت انتهاكات كثيرة، والتركيز على بناء مستقبل مشترك.

5. التعاون الإقليمي: لا يمكن تحقيق السلام في الشرق الأوسط إلا من خلال التعاون الإقليمي بين دول المنطقة، وتنسيق الجهود لمواجهة التحديات المشتركة، فبإرادة شعوب الإقليم تفتح آفاق جديدة للتعايش والاستقرار والتعاون.

لماذا فلسفة السلام في هذا التوقيت؟

يحتاج الشرق الأوسط بكل مكوناته وصراعاته، كونه مستهدف منذ آمد طويل؛ إلي مشروع سلام شامل، فلسفة السلام توفر الأرضية لحل جميع الصراعات بطرق سليمة ديمقراطية، وتُمَكِّنُ الأفراد والمجتمعات للعمل التشاركي من أجل بناء شرق أوسط ديمقراطي يرتكز على السلام والتشارك والتعايش والعدل، هذا هو الطريق الوحيد لعودة شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط فاعلة مرة أخرة.

مبادرات السلام في الشرق الأوسط

شهدت منطقة الشرق الأوسط العديد من المبادرات والجهود الرامية لإحلال السلام، ولكنها ارتبطت جمعياً بالقضية الفلسطينية، على الرغم من مآسي شعوب أخرى كالشعب الكردي، والأحواز …إلخ، وتمثلت المبادرات في مؤتمر مدريد 1991 للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، واتفاق أوسلوا 1993 الذى أدي للاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، ومهد للحكم الذاتي الانتقالي الفلسطيني، ومبادرة السلام العربية 2002 والتي عرضت على إسرائيل الاعتراف العربي الكامل مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية. ولكن كل هذه المبادرات لم تغير شيء في استراتيجية إسرائيل في التعامل مع الشرق الأوسط لتحقيق مشاريعها، كذلك لم يطرح مشروعاً متكاملاً للسلام لمنطقة الشرق الأوسط، يتوافق مع تاريخ وحضارة وثقافة وهوية شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط، إلا المشروع الأوجلاني للسلام، نظراً لشموليته كل المكونات، واستناده على تاريخ حافل لهذه المكونات التي صدرت الحضارة للعالم أجمع.

فلسفة السلام في فكر عبد الله أوجلان

يُعد عبد الله أوجلان من أبرز المفكرين الذين قدموا رؤية شاملة للسلام في الشرق الأوسط، حيث يكمن جوهر في فلسفته في تحرير الفرد في منطقة الشرق الأوسط من براثن الحداثة الرأسمالية، وتأثيراتها الكبيرة على تعزيز ثقافة القطيع المطيع، واستغلال المنطقة لحماً وعظماً. لذا، ارتكزت فلسفة أوجلان للسلام على إعادة بناء الفرد مرة أخرى ليكون تشاركياً بعيد كل البعد عن الذاتية والفردية. وهناك نقاط رئيسة فى ترسيخ فلسفة السلام في المنطقة من المنظور الأوجلاني.

1. الأمة الديمقراطية: هي الطموح الأكبر لبناء نظام اجتماعي وسياسي يقوم على التعددية الثقافية واللغوية والدينية، والمساواة بين جميع المكونات. كما تجلى بوضوح أن مشروع الأمة الديمقراطية يمثل الحل الجذري لشعوب المنطقة التاريخية، ويتجاوز تأثيره ليشمل القضايا العالقة في مختلف أنحاء العالم. عندما قدم المفكر والفيلسوف عبد الله نموذج الأمة الديمقراطية، كان هدفه هو معالجة جميع التحديات والمشكلات التي تواجه المجتمعات، وليس مجتمعًا واحدًا فحسب. من خلال ذهنية الأمة الديمقراطية، يتم دمقرطة العلاقات الاجتماعية بين الهويات المتنوعة، مُعززة بروح الوفاق والسلام والتسامح. يسعى هذا المشروع إلى إصلاح المجتمع بوعي عميق، وإعادة المنطقة إلى عصرها الذهبي الذي يتسم بالسلم والبناء الحضاري. لذا، يُعتبر مشروع الأمة الديمقراطية حجر الزاوية لإقرار التعايش السلمي بين شعوب المنطقة، وتعزيز ثقافة السلام في الشرق الأوسط، ويتجاوز تأثيره ليشمل كافة المجتمعات التي تعاني من الظلم. إن هذا النموذج يفتح آفاقًا جديدة للتفاهم والتعاون، مما يعزز قيم العدالة والمساواة في الشرق الأوسط. 

إن الهدف الأساسي لأوجلان هو تحرير الشعوب من قبضة الحداثة الرأسمالية وأساليبها، لتمكينها من مواجهة التحديات في صراع حقيقي يعيد الأمور إلى نصابها. لقد عانت منطقة الشرق الأوسط كثيرًا من لصوص التاريخ والحضارة، لذا يأتي مشروع إحلال الأمة الديمقراطية محل الدولة القومية كجهد فعال لمحاربة الإقصاء والتهميش. فإن الدولة التي تضم مكونات متعددة وتستطيع دمجها ضمن إطار ديمقراطي، مع الحفاظ على تاريخ وثقافة كل منها، هي حقًا أمة ديمقراطية. هذا الإطار يُمهد الطريق لبناء حضارة ديمقراطية متكاملة.

2.الكونفدرالية الديمقراطية: طرح أوجلان نظام الكونفدرالية الديمقراطية كنموذج للحكم الذاتي للمجتمعات المختلفة، حيث تتمتع كل جماعة بحقوقها الثقافية والسياسية، وتشارك فى إدارة شؤونها. والأطروحات الأوجلانية فى تطوير مستمر، لذلك يري أن دمج المكونات المختلفة للدولة تحت غطاء ديمقراطي؛ يتيح المشاركة والتمثيل لكل المكونات، بل أكثر من هذا؛ الاعتراف بالآخر وتاريخه وثقافته ولغته وهويته. في كلمة، إن الكونفدرالية الديمقراطية هو نظام مؤلف من المجالس الإدارية المنتخبة من قبل الشعب، وهي التي تمكن المجتمعات المحلية من إدارة مواردها الخاصة، ومن ناحية أخرى تقيم علاقات مع المجتمعات الأخرى عبر شبكة المجالس الكونفدرالية.

3. المرأة ركيزة الحياة الإنسانية: عانت المرأة على مدار فترات تاريخية كبيرة من استغلالها واستنزافها واستعبادها، بعد طغيان ذكورية المجتمعات، أضف أيضاً، جعلها سلعة تباع وتشترى في ظل الحداثة الرأسمالية. لذا، فإن تحرير المرأة هو أساس بناء مجتمع ديمقراطي، فهو يربط بين قضايا المرأة وقضايا المجتمع ككل، وكذلك إعادة النظر في كل القيم الثقافية والاجتماعية التي تعيق تقدم المرأة، فأسس علم مختص بالمرأة ( الجنولوجيا)، فالمشاركة الفاعلة للمرأة والاضطلاع بدورها الرئيسي والتاريخي هي ركيزة الحياة الإنسانية وبناء المجتمعات الديمقراطية، رؤية أوجلان للمرأة نابعة دورها التاريخي في تأسيس الإنسانية بالأساس.

4. الحياة الإيكولوجية (اعادة صياغة علاقة الإنسان بالبيئة): تحتل البيئة موقعاً مهماً في مشروع أوجلان للسلام في الشرق الأوسط، حيث أنها وعبر نظرية الربح الأعظم استنزفت مواردها، وشوهت صورتها الطبيعية، وضياع حقوق الأجيال القادمة. لذا، يرى أوجلان ضرورة تحقيق التوزان البيئي الذي هو عنصر أساسي في تحقيق السلام، وأن استغلال الطبيعة يكون بشكل عادل ومستدام، ف كلمة إعادة هيكلة علاقة الإنسان مع البيئة.

5. حل القضية الكردية: يضع أوجلان حل القضية الكردية مفتاحاً للسلام في الشرق الأوسط، حيث يرى أنه من الضروري الاعتراف بالكرد في الأجزاء الأربعة، ودمجهم داخل الدساتير التي تعاد صياغتها بشكل ديمقراطي، فإن حل القضية الكردية في تركيا وسوريا والجمهورية الإيرانية، سيكون نقطة ارتكاز جديدة نحو فلسفة سلام شرق أوسطي يمهد للاستقرار في منطقتنا، ويعزز من حل القضايا الشائكة والعالقة تاريخياً.

أوجلان وبناء نظرية السلام في الشرق الأوسط

يُعد عبد الله أوجلان، المفكر والمناضل الكردي (مؤسس حزب العمال الكردستاني)، شخصية محورية في تاريخ القضية الكردية في تركيا. ليس منذ بداية الصِدام المسلح في عام 1984 وحسب، بل منذ تكوين فكرته ورفاقه عن كردستان، ولكن سعي أوجلان وإصراره على إيجاد نظرية تعالج الأمراض المتفاقمة والمتنوعة التي أصابت شعوب ومجتمعات المنطقة، والبدء في طرح الثورة الذهنية وآلياتها ونتائجها المبهرة التي وضعت الشعب الكردي كفاعل في المنطقة، لذلك طور مشروعه نظرياً وعملياً، فعلى الصعيد النظري ظهر مشروع الأمة الديمقراطية، وعلى الصعيد العملي أطلق أوجلان عدة مبادرات سلام تهدف إلى إيجاد حلول سياسية للقضية الكردية. على الرغم من أن هذه المبادرات لم تؤدِ دائمًا إلى نتائج ملموسة نتيجة ذهنية الآخر، إلا أنها شكلت محطات مهمة في مسيرة البحث عن السلام.

وكانت البداية في عام 1993، حين أعلن حزب العمال الكردستاني عن أول وقف لإطلاق النار من جانب واحد، في محاولة لفتح قنوات للحوار مع الحكومة التركية. ومع ذلك، لم تُبَادر الحكومة بالتفاعل مع هذه الخطوة، مما أدى إلى استمرار النزاع. ثم المؤامرة الدولية وأسر أوجلان، وهو الفعل الذي استحت منه الإنسانية، ورغم ذلك، دعا من أسره مقاتلي حزب العمال الكردستاني إلى الانسحاب من تركيا، معلنًا بداية “عهد السلام”. استجاب الحزب لهذه الدعوة، وانسحب الآلاف من مقاتليه إلى شمال العراق، مما أظهر رغبة حقيقية في تحقيق السلام. استمرت مبادرات السلام، وقدم أوجلان في 2009 خارطة طريق” لحل القضية الكردية، تضمنت مقترحات للإصلاحات الديمقراطية، والاعتراف بالحقوق الثقافية للكرد، وإعادة دمج مقاتلي حزب العمال الكردستاني في المجتمع. ومع فشل نموذج الدولة القومية الفئوية في أعقاب الربيع العربي في 2011، كان استقراء أوجلان لمخططات إعادة تقسيم المنطقة، واستمرار الظلم لشعوب بعينها، فأطلق عملية السلام في 2013 والتي شهدت مفاوضات مباشرة بين الدولة التركية وأوجلان. أسفرت هذه العملية عن وقف لإطلاق النار وتبادل للرسائل بين الطرفين، ولكنها انهارت في 2015 بسبب تجدد الاشتباكات للتعنت التركي. وعلى الرغم من انهيار عملية السلام، إلا أنه استمر في إطلاق مبادرات من أسره، داعيًا إلى الحوار والمصالحة. داعياً إلى حل سياسي للقضية الكردية عبر إقرار الديمقراطية وترسيخ العدالة والاعتراف بالآخر دون تمييز.

ومع تصاعد التوترات في تركيا، وتزايد العمليات العسكرية والضغوط الإقليمية. أطلق أوجلان نداء السلام في 27 شباط/ فبراير 2025، كخطوة نحو إعادة إحياء عملية السلام المتعثرة. تتضمن نبذ العنف والذي على إثره تم حل الهياكل التنظيمية لحزب العمال الكردستاني، وإلقاء السلاح، وفتح آفاق جديدة من أجل ترسيخ الحل السلمي الديمقراطي، فدعا أوجلان جميع الأطراف، بما في ذلك الحكومة التركية والأحزاب السياسية الكردية، إلى الدخول في مفاوضات مستمرة لحل القضية الكردية حلاً ديمقراطياً، كما طالب أوجلان بإجراء إصلاحات ديمقراطية شاملة، تشمل الاعتراف بالمكون الكردي وهويته وتاريخه ولغته، وهو ما يُعد شرطًا أساسيًا لتحقيق السلام. أكد على أهمية مشاركة المجتمع المدني في عملية السلام، مما يعكس وعيًا بأهمية التوافق الوطني. وتأتى دعوة أوجلان لبناء جسور المصالحة بين المجتمعات المختلفة في تركيا بالأساس، ولكل الحالات الكردية المماثلة التي تُعاني من شبح القومية الطائفية، مؤكدًا على أهمية التنوع، ولكن في إطار الوحدة والتفاهم. وأظهر نداء أوجلان فهمًا عميقًا للأبعاد النفسية والاجتماعية للنزاع. فالوضع الراهن يتطلب إعادة بناء الثقة بين الأطراف المختلفة، وهو ما يتطلب جهودًا مكثفة.

لذا، يمثل نداء السلام خطوة جديدة نحو البحث عن حلول سلمية للقضية الكردية. إذا استجابت الأطراف المعنية لهذه الدعوة؛ فقد تكون لها آثار إيجابية على الاستقرار الإقليمي. ويؤسس النداء لمرحلة جديدة من الحوار، حيث يمكن للأحزاب السياسية والمجتمع المدني أن يلعبوا دورًا فعالًا في تحقيق سلام مستدام. إن نجاح هذه المبادرة يعتمد على الإرادة السياسية الحقيقية من جميع الأطراف.

وتبقي الورقة الآن في يد الإدارة التركية، أوجلان والكرد مدوا أيديهم بالسلام نظرياً وعملياً، ولكن قد تكون السياسة الكلاسيكية التركية (التسويف)، لذا، من المفترض أن تبني جذور الثقة بينها وبين الشعب الكردي عبر الإفراج عن أوجلان، وإعادة صياغة الدستور التركي ليكون دستور الجمهورية الديمقراطية.

أما عن مردود مبادرات السلام التي أطلقها أوجلان واتخاذ المسار السياسي، والتحول من الكفاح المسلح إلى الكفاح الفكري الديمقراطي، في تطور فكري ملحوظ. فقد نجح أوجلان ورفاقه في إعادة طرح القضية الكردية على الساحة، وأصبح للكرد دور فاعل، تغيير الذهنية الكردية وتنقيتها من شوائب الدولة القومية والقبول بالاندماج مع الحفاظ على كرديتهم. التحول المهم بإشراك المجتمع المدني والأطراف الكردية المختلفة في عملية السلام، إلا أن المردود المهم للمبادرات هو ترسيخ أطر حل سياسي للقضية الكردية.

تأثير فكر أوجلان على السلام في الشرق الأوسط

لقد أثر فكر أوجلان بشكل كبير على الحركات السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط، وبشكل حصري لدي الشعب الكردي، فلقد أعاد إحياء القضية داخل الكرد، ولكن في إطار نضالي ديمقراطي يبغي المساواة والتعايش السلمي.

الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا: تمثل تجربتها النموذج الحي لمشروع السلام الأوجلاني القائم على التنوع في إطار الوحدة، لقد تمكنت المكونات أن تتعايش وتتشارك وتدافع عن نفسها بفضل فلسفة أوجلان، ورغم استهداف التجربة لسقوطها، إلا أنه بفضل ذهنية مكونات الإدارة الذاتية ما زالت تصمد وتنجح على الأرض.

دعوته الدائمة لإقرار السلام والديمقراطية:

استمر أوجلان على مدار تاريخه النضالي يفتح آفاق الحوار حتى وهو في أسره، وبالتالي فإن نداء السلام والمجتمع الديمقراطي جسد بامتياز فلسفة السلام عملياً، مما كشف للمجتمع الدولي أن أوجلان يعتبر مفكراً نضالياً، وفيلسوفاً إصلاحياً، وليس إرهابياً، صاحب مشروع يحل مشاكل شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط، بل تتجاوزها إلى الشعوب التي تُعاني عبر المعمورة.

تأثير أوجلان على الحركة النسوية: مثل فكر أوجلان مصدر إلهام للعديد من الحركات النسوية في المنطقة، فالمرأة الحرة في المجتمع الحر، والحياة الندية المشتركة، تخليص المرأة من قيود السلطة الذكورية، فالمرأة في فكر أوجلان ركيزة الحياة. انعكس أيضاً وبامتياز فكره على المرأة الكردية التي أصبحت تتصدر المشهد سياسياً وعسكرياً واجتماعياً وثقافياً، وتتشارك مع الرجل في مناحي الحياة، فأصبحت المرأة فاعلة ومؤثرة بفضل أفكار أوجلان.

وختاماً: فإن تحقيق السلام في الشرق الأوسط يتطلب رؤية شاملة تأخذ في الاعتبار جميع العوامل المعقدة التي تؤثر على المنطقة بشكل مباشر، وكل النظريات الغربية لتحقيق السلام الشامل والسلام الدائم ما هي إلا أداة فكرية للسيطرة على شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط، لأن المنطقة رائدة بالأساس في التعايش السلمي والاستقرار وإقرار السلام، ولذلك قامت الحضارات العظيمة التي أبهرت العالم وتعلم منها. لذلك فإن فكر أوجلان وفلسفته للسلام هو المشروع المناسب لمنطقة الشرق الأوسط، لأنه قائم على الديمقراطية والمساواة والتعايش، ولكن تواجه هذه الفلسفة العديد من التحديات والصعوبات التي تعرقل مسيرتها، نظراً لأنها تتعارض مع مصالح القوى المهيمنة القديمة والجديدة. وبالنظر للأوضاع على الأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية، نجد أن فلسفة السلام الأوجلانية تستطيع احتواء المشاكل الملتهبة في البقاع سالفة الذكر، فالتعايش والتشارك والتنوع في إطار الوحدة الركيزة الأساسية للأمة الديمقراطية القادرة على بناء حضارة ديمقراطية.

إن الإفراج عن المفكر والفيلسوف والمناضل عبدالله أوجلان بداية حل مشاكل الشرق الأوسط، لأنه بالفعل يملك الحلول النظرية والعملية لحل القضية الكردية في تركيا وسوريا وإيران، ومن ثم، إقرار السلام والاستقرار والتعايش في هذه المناطق المهمة، وتعطيل مشاريع الاستيطان والسيطرة التي تستهدف الشرق الأوسط ، فإن الإدارة التركية لديها الفرصة لالتقاط دعوة أوجلان وندائه بدلاً من التسويفات واللجان المنبثقة ومناقشة الأمر بشكل بيروقراطي، والذي من شأنه تمويت القضية لتمرير أهداف سياسية، ولكن إذا كانت الإدارة التركية مازالت تنظر للكرد من منطلق تاريخي، وإعادة تكرار ما حدث عام 1925، فإن تقديراتها خاطئة لأن الشعب الكردي بعد الثورة الذهنية وعملية الوعي الكبري التي قادها أوجلان أصبح غير سابق. لذا، فمساعي الحل السلمي ستعود على الشرق الأوسط بالاستقرار، وتعزز التعايش السلمي، وترسخ لثقافة السلام، التي من شأنها الحفاظ على ما تبقى من المنطقة بشراً وحجراً، والبناء عليه نحو مستقبل أفضل لشعوب ومجتمعات الشرق الأوسط، فإن المشروع الأوجلاني يبدأ بالفرد ثم المجتمع ثم الإقليم ثم العالم، يعزز مكانة المرأة ودورها ، يجسد التشاركية الكومونالية بامتياز ويحرر الأفراد من براثن الرأسمالية، يضع الأمة الديمقراطية محل الدولة القومية لتشمل جميع المكونات، الترشيد فى التعامل مع البيئة لضمان الاستدامة، وقف العنف والنزاعات والجلوس على طاولة المفاوضات الحقيقية، واقرار السلام الشامل يتطلب جهوداً متواصلة من جميع الأطراف المعنية في المنطقة.  

أهم المراجع المستخدمة

1. عبدالله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديمقراطية” أزمة المدينة وحل الحضارة الديمقراطية فى الشرق الأوسط”، ترجمة زاخو شيار، المجلد الرابع

2. عبدالله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديمقراطية” سيسيولوجيا الحرية”، ترجمة زاخو شيار، المجلد الثالث

3. مضمون رسالة عبد الله أوجلان “نداء السلام.” (27 فبراير2025).

4. سليم غوناي: “تاريخ النزاع الكردي-التركي.” مجلة الدراسات الشرق أوسطية، 2020.

5. ليلى كارا: “عملية السلام في تركيا: من الأمل إلى الإحباط.” دراسات السلام، 2019.

6. أحمد ديمير: “الحقوق الثقافية للأكراد في تركيا.” مجلة الحقوق الإنسانية، 2021.

7-عبد الحي القاسم، عمر ادريس، الصادق ابكر، دعائم السلام الاجتماعي في الاسرة المسلمة، دفاتر السياسة و القانون، العدد الرابع عشر، 2016.

8-ناهد,عبد العال، السلام بين الفكر الاسلامي والفكر الغربي “دراسة مقارنة “، رسالة ماجستير، كلية الاداب، جامعة عين شمس 2014.

9- ناهد , الخراشي، المناهج الدراسية وأثرها فى نشر ثقافة السلام ومواجهة الإرهاب، مصر

ابو القاسم، قور، مقدمة في دراسات السلام و النزاعات، مكتبة الابتار، 2010 .

10. محمد أمين : قراءة فى فكر القائد أوجلان ، من الثورة إلى مشروع السلام والمجتمع الديمقراطي.

11. أفرين نافدار: تحليلات القائد أوجلان .. فلسفة يرتقى بها المجتمع نحو الحرية والديمقراطية، وكالة أنباء المرأة ، جين، 13 فبراير 2025.

12. لا يمكن للسلام أن يتحقق إلا بفكر وفلسفة القائد عبدالله أوجلان، وكالة أنباء هاوار، أيلول 2024.

13. على أبوالخير: رسائل السلام فى فكر القائد عبدالله أوجلان، روناهي، أبريل 2024.

14. رانج علاء الدين: ما بعد الوساطة : إعادة النظر فى بناء السلام فى الشرق الأوسط، مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، 2025.

15. https://iep.utm.edu/peace/

16. https://mawdoo3.com

17https://political-encyclopedia.org

18. https://mafahem.com/sl_20668

:

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى