روسيا تعيد تموضعها في المنطقة.. و”الشرع” يماطل في تنفيذ الاتفاق مع (قسد)

فيما تحاول دولة الاحتلال التركي ممارسة أقصى الضغوط على قوات سوريا الديمقراطية بخصوص عملية “اندماجها” ضمن قوات الجيش السوري المزمع إنشاؤه، والتي ترى فيها حلاً لنفسها وليس اندماجاً، فإن التطورات السياسية والعسكرية على الأرض تشير إلى تعثر جهودها في إكمال نفوذها وبسط سيطرتها على جميع مفاصل الدولة السورية، وأن مشروعها آيل إلى الأفول على غرار المشروع الإيراني.
أفادت تقارير موثوقة، من بينها المرصد السوري لحقوق الإنسان، أن توجه الرئيس السوري “أحمد الشرع” نحو موسكو، جاء بتوجيهات مباشرة من أنقرة، بعد أن عاد خالي الوفاض من نيويورك، هو والرئيس التركي أردوغان.
زيارة “الشرع” إلى روسيا، وصفها بعض المراقبين بأنها الأهم منذ وصوله إلى القصر الجمهوري، حسبما ورد في تقرير لـ”سكاي نيوز”، وتمت مناقشة مستقبل القاعدتين الروسيتين في طرطوس وحميميم، وإعادة تسليح الجيش السوري. ولكن المسألة الأبرز في الزيارة تمثلت بتعهد “الشرع”، “الالتزام بكل الاتفاقيات والمعاهدات التي وقّعها النظام البائد مع روسيا، بما فيها الاستثمار في النفط والغاز والفوسفات، وكذلك تدريب الجيش السوري”. فيما البروباغاندا التي نشرها موالو الحكومة السورية المؤقتة أن “الشرع” طالب بتسليم الرئيس السوري السابق “بشار الأسد”، لم تكن سوى أكذوبة روّج لها بغرض حشد جمهوره وحاضنته، حيث لم يكن على جدول الزيارة أي مطلب من هذا النوع. فيما وصف النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الدوما الروسي “ديمتري نوفيكوف”، المطالبة بتسليم الرئيس السوري السابق بشار الأسد إلى السلطات الجديدة في بلاده بأنها “أمر غريب”، مرجحاً إمكانية “الانتقام منه” في حال وافقت موسكو.
ونقل موقع “لينتا” افخباري الروسي عن “نوفيكوف”، قوله إن المطالبة بتسليم الأسد “تبدو غريبة”، مذكراً أنه “كان في الماضي قائداً منتخباً وفقاً للتشريعات السورية”، مشيراً إلى أنه “قد يتعرض للتصفية في حال إعادته إلى سوريا”.
وأوضح البرلماني الروسي أن “العديد من الشخصيات السياسية السابقة من دول مختلفة توجد داخل الأراضي الروسية، بما في ذلك الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش”.
وأكمل: “لو سلكت روسيا هذا الطريق سيعني تناقضها مع مبادئ حقوق الإنسان”، مضيفاً أنه “من غير المرجح أن توافق موسكو على ذلك”. أي أن روسيا ترفض تسليم الأسد، فيما قالت مصادر إعلامية مقربة من الكرملين بأن الأسد سيقضي شيخوخة هادئة في روسيا.
من جانبها قالت صحيفة “جوروزاليم بوست” الإسرائيلية “إن روسيا تعمل على إعادة تموضعها في المنطقة”، ومن خلال البوابة السورية مرة أخرى، لتعود إلى المياه الدافئة في الشرق الأوسط، وتنافس الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في النفوذ على مصادر الطاقة.
تبدو الخطوة الروسية في جذب واستقطاب “الشرع” جيوإستراتيجية في ظل الصراعات الدائرة في المنطقة والعالم حول طرق التجارة ومصادر الطاقة. إلا أن ردود الفعل الغربية الغاضبة من استدارة “الشرع” نحو روسيا بشكل إستراتيجي، وبدعم من تركيا، عبَّر عنها عضو الكونغرس الأمريكي “جو ويلسون”، والذي كان يُعَدُّ من أشد المدافعين عن “الشرع” في موضوع رفع عقوبات “قيصر” عن سوريا، حيث قال: “يجب بذل كل الجهود لإزالة قواعد بوتين المجرمة القاتلة من سوريا”.
ويُعد هذا التحول في موقف “ويلسون” انعطافة حادة مقارنة بمواقفه السابقة الداعية إلى تخفيف الضغوط الأمريكية على شخصيات داخل الحكومة الانتقالية في سوريا وفتح قنوات تواصل معهم، ما يعكس تصاعد التوتر الأمريكي – الروسي حول النفوذ في سوريا.
لقد ظهر واضحاً أن موسكو باتت تتعامل مع سوريا الجديدة والشرع كـ”حليف ضروري” لحماية مصالحها في شرق المتوسط، حتى لو كانت تلك القوى في السابق ضمن من صنّفتهم روسيا “إرهابيين”. فيما “الشرع” بدا براغماتياً أكثر من اللازم، وترك خلفه كل المواقف العدائية تجاه روسيا حينما كانت تقصف طائراتها مواقعه في إدلب.
ويرجح مراقبون أن تخلق زيارة “الشرع” لموسكو والتعهدات التي قدمها لـ”بوتين” مزيداً من المصاعب له من قبل أنصاره ومؤيديه، وخاصة من الجماعات “الجهادية الأجنبية” الشيشانية والأوزبكية التي تشترط روسيا بتسليم أعضائها مقابل عودة العلاقات بينهما، ولن تقبل روسيا وجود معسكرات تدريب لتلك الجماعات قرب قواعدها في حميميم وطرطوس واللاذقية، وكذلك فصائل المرتزقة المرتبطة بتركيا من أمثال “العمشات” و”الحمزات”. ونقلت بعض المصادر في الساحل السوري عن بدء تفكيك تلك الجماعات لقواعدها في مناطق عديدة.
وبعد فشل مساعي تركيا في استمالة “مناف طلاس” وزجِّه في هيكلية وزارة الدفاع السوري، تولدت مخاوف لدى “الشرع” من قيام الأول بانقلاب عليه، وفق ما أشار إليه المعارض السوري “هيثم مناع” أيضاً، ما دفعه ليدير بوصلته مجدداً نحو قوات سوريا الديمقراطية، مثلما حصل أثناء ارتكاب قواته المجازر في الساحل السوري في مارس/ آذار الماضي، وليقبل بكل شروط (قسد) في قضية “الاندماج” واللامركزية السياسية الواسعة، ولكنه يحاول هذه المرة كسب الوقت وإطالة أمد المفاوضات وعرقلتها، كما أوضح عضو القيادة العامة في قوات سوريا الديمقراطية “سيبان حمو” في لقاء مع المركز الإعلامي لـ(قسد)، حيث أكد أيضاً أن قواتهم جاهزة للاندماج في إطار الحفاظ على هويتها الوطنية الجامعة، ولكنه في ذات الوقت لم يذهب بعيداً في التفاؤل، من خلال قوله إن الخطوات المقبلة لحكومة دمشق هي التي ستحدد مسار عملية الدمج، “سواء بالتسريع أو الإبطاء أو حتى التجميد”، مشيراً إلى أن (قسد) ستبقى قوة وطنية جامعة تدافع عن جميع السوريين.
حكومة “الشرع” أمام مفترق طرق رئيسي ومصيرها بات على كف عفريت؛ فمن جهة قبولها بالشروط الأمريكية الخمسة الرئيسية التي أعلن عنها وزير الخارجية “ماركو روبيو” في وقت سابق، بما فيها التخلص من ملف العناصر الأجنبية في الجيش وخارجه، وتوقيع الاتفاقية الأمنية مع إسرائيل والتخلي عن الجولان، وبشروط الأولى، وكذلك تشكيل حكومة وحدة وطنية عبر إشراك كل مكونات الشعب السوري وعلى رأسها الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، والمشاركة الفعلية في مكافحة الإرهاب، إضافة إلى إشاعة الأمن والاستقرار في سوريا، ومن جهة أخرى الرضوخ للشروط الروسية في إعادة نشر قواتها في الساحل السوري، وفتح الأبواب أمام الشركات الروسية للاستثمار في سوريا، فيما الإملاءات التركية الوقحة والخارجة عن الأعراف والبروتوكولات الدبلوماسية، تشكل هي الأخرى مأزقاً كبيراً أمامه، ولا يمكنه التحرر منها إلا عبر الخروج من الحكم. تبقى النافذة الوحيدة المفتوحة له هي قوات سوريا الديمقراطية والقبول بشروطها في الاندماج، والسير بسوريا نحو بلد موحد ومستقر في ظل التجاذبات الإقليمية والدولية العاصفة به.