مقالات رأي

اتفاق قسد ودمشق المبدئي… بين الاعتراف المتبادل وإعادة تعريف مفهوم الوطنية السورية



في مشهدٍ سياسيٍّ متحوّلٍ تعيشه الساحة السورية بعد أكثر من عقدٍ من الصراع، برز إعلان القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية الجنرال مظلوم عبدي حول التوصل إلى اتفاق مبدئي مع دمشق، كخطوة تحمل أبعادًا وطنية وإستراتيجية عميقة.
الاتفاق الذي يقضي بدمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن وزارة الدفاع السورية ودمج قوى الأمن الداخلي (الأسايش) ضمن وزارة الداخلية، مع الحفاظ على اسم “قسد” كرمز وطني لتضحياتها في الحرب ضد الإرهاب، يعيد فتح النقاش حول مستقبل الدولة السورية، ومفهوم “الوطنية” في ظل التعدد والتنوع القومي والاجتماعي.

أولاً: من قوة محلية إلى إطار وطني جامع
قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكّلت عام 2015 بدعم من التحالف الدولي لمحاربة داعش، استطاعت أن تتحوّل من قوة محلية في شمال وشرق سوريا إلى قوة وطنية جامعة تمثّل مختلف المكونات السورية – الكردية، العربية، السريانية، والتركمانية – ضمن مشروع وطني ديمقراطي.
دمجها ضمن مؤسسات الدولة، مع الحفاظ على خصوصيتها التاريخية ودورها الميداني، يعني الاعتراف بدورها الوطني وبإسهامها الفعلي في حماية وحدة الأراضي السورية ومكافحة أخطر تنظيم إرهابي شهده العالم المعاصر.

الاتفاق، في مضمونه، لا يمثل خضوعًا أو تنازلاً من أي طرف، بل هو تأسيس لشراكة وطنية جديدة بين مكوّنات الدولة والمجتمع، قوامها التعاون في محاربة الإرهاب وبناء مؤسسات وطنية ديمقراطية.

ثانياً: قسد كقوة لمكافحة الإرهاب على مستوى البلاد
وفقًا للتفاهم المبدئي، ستتحول قوات سوريا الديمقراطية إلى قوة وطنية تعمل تحت مسمى “قوات مكافحة الإرهاب”، وتنتشر في عموم الأراضي السورية لملاحقة خلايا تنظيم داعش وبقايا التنظيمات المتطرفة، خصوصًا في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة أو التي تشهد فراغًا أمنيًا.

هذا الترتيب يمنح قسد صلاحيات ميدانية وطنية ويجعلها شريكًا أساسيًا في حماية الأمن القومي السوري، وهو اعتراف ضمني بخبرتها وكفاءتها في محاربة الإرهاب، بعدما كانت رأس الحربة في تحرير الرقة، منبج، دير الزور، والهجين، وتقديم آلاف الشهداء في سبيل أمن البلاد واستقرارها.

بذلك، تصبح قسد جزءًا من المنظومة الدفاعية السورية لا باعتبارها ميليشيا محلية، بل كقوة مؤسسية تعمل وفق استراتيجية وطنية لمواجهة الخطر الإرهابي الذي لا يزال ماثلاً، خصوصاً في مناطق النفوذ الخارجي.

ثالثاً: اللامركزية السياسية… جوهر المشروع الوطني الجديد
أكد الجنرال مظلوم عبدي أن اللامركزية السياسية تبقى نقطة الخلاف الجوهرية بين الإدارة الذاتية ودمشق، مشيرًا إلى أن النظام السوري لم يبدِ بعد قبولاً كاملاً بهذا المبدأ.
لكن في المقابل، يرى عبدي أن الحوار مستمر للوصول إلى صيغة مشتركة تضمن حقوق جميع السوريين، وخاصة الشعب الكردي، ضمن دستور سوري جديد يقوم على العدالة والمواطنة المتساوية.

إن اللامركزية الديمقراطية ليست مطلبًا كرديًا فحسب، بل هي مشروع وطني لإعادة بناء الدولة السورية على أسس المشاركة الشعبية وتوزيع السلطة والموارد بعد عقود من المركزية المطلقة.
فهي النموذج الواقعي الذي أثبت نجاحه في مناطق الإدارة الذاتية، حيث تشاركت المكونات في إدارة شؤونها عبر المجالس المحلية، وأُعطيت المرأة والشباب دورًا فاعلًا في القرار السياسي والاجتماعي.

رابعاً: قسد كضمانة لوحدة سوريا
في وقت تتعرض فيه سوريا لضغوط إقليمية ودولية تهدف إلى تقسيمها، يبرز الاتفاق المبدئي كخطوة مضادة لهذه المشاريع، تؤكد أن الحل الوطني لا يكون إلا بالحوار بين السوريين أنفسهم.
فدمج قسد في الجيش السوري لا يعني ذوبانها، بل تكامل الأدوار بين القوى الوطنية، وهو ما يعزز وحدة البلاد ويحافظ على خصوصية التجربة الديمقراطية في شمال وشرق سوريا ضمن الإطار الوطني العام.

من جهة أخرى، يمنح هذا الاتفاق رسالة سياسية واضحة إلى الداخل والخارج:
أن قسد ليست مشروعًا انفصاليًا، بل قوة سورية وطنية تحمل مشروعاً ديمقراطياً قائماً على التعايش والمواطنة، وترفض التطرف والتبعية لأي أجندات خارجية.

خاتمة
إن الاتفاق المبدئي بين قوات سوريا الديمقراطية ودمشق، وإن كان في مراحله الأولى، يمثل نقطة تحول في مسار الصراع السوري.
فهو يفتح الباب أمام صيغة وطنية جديدة تجمع بين وحدة الدولة وتنوعها، بين الجيش المركزي والقوى المحلية، وبين النظام السياسي القائم والمشاريع الديمقراطية الناشئة.

إن قسد اليوم ليست مجرد قوة عسكرية، بل مشروع وطني ديمقراطي يسعى إلى بناء سوريا حديثة، تعددية، لا مركزية، تحترم الإنسان وكرامته، وتضمن العدالة والمساواة لكل مكوناتها.

وبقدر ما تنجح دمشق في استيعاب هذه الحقيقة، بقدر ما يمكن لسوريا أن تبدأ مسار التعافي الحقيقي من الحرب الطويلة، وتؤسس لوطنٍ يجمع ولا يفرّق، يشارك فيه الجميع في صنع القرار والمستقبل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى