مانشيتمقالات رأي

سوريا “المركزية” تهديد لوحدة سوريا

حسين عمر

بعد أكثر من عقد من الحرب المدمرة، وما تخلّلها من جرائم وفظائع، استبشر السوريون خيراً بسقوط نظام الأسد، يحدوهم الأمل في أن تُشرق أخيراً شمس الحرية على بلدهم. لكن لم يمضِ الكثير من الوقت على وجود السلطات الجديدة في سدة الحكم، حتى أيقن السوريون أنهم أمام حقبة جديدة من الظلم والاستبداد، وأنهم وبدلاً من الخروج من قبضة الاستبداد، الذي ثاروا ضده لسنوات سعياً لبلوغ الحرية والحياة الكريمة، باتوا يقبعون مرة أخرى تحت هيمنة نظام الحكم الفردي المطلق.

صعد أحمد الشرع، المعروف بأبي محمد الجولاني، من قائد فصيل مسلح إلى الحاكم الفعلي لدمشق وإدلب وأجزاء واسعة من حلب وحماه وحمص، مؤسّسًا نسخة جديدة من السلطة تجمع بين القوة العسكرية والسيطرة السياسية المطلقة. وأنه لجليٌّ أن الشرع لم يأتِ لتحرير الشعب بل لتحقيق طموحه الشخصي، وكذلك لتنفيذ مشاريع ومخططات تعمل عليها قوى دولية في المنطقة، وهذا ما يعمل عليه حالياً من خلال محاولات تغيير البنية السياسية والدولتية السورية.

وما كان للشرع أن يحقّق هذا “الانتصار” دون مساعدة إسرائيل، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فاستراتيجيتها هي التي مهّدت له الطريق عبر إضعافها للقوة الدفاعية لنظام الأسد، من خلال الاستهدافات المتكررة طيلة سنوات. وتُرك هذا النظام وحيداً في نهاية المطاف، لا سيما بعد أن تخلّت عنه روسيا بإبلاغه أنها لم تعد قادرة على الدفاع عنه. هذا العوامل وغيرها مهّدت الطريق للشرع الذي قاد فصيله المسلح منطلقاً من معقله في إدلب ليصل إلى قلب العاصمة دمشق في غضون أيام معدودة دون أية مقاومة.

أصبحت العاصمة دمشق تحت قبضة الشرع، والمؤسسات السياسية والأمنية مجرّد واجهات لسلطته. أي صوت مخالف أو رأي مستقلٍّ يُصوّر على أنه تهديد، لذلك يُكبح أو يُعاقب، بأساليب الأنظمة القمعية التقليدية. الفارق أن الشرع يلبس سلطته لبوس الدين ويستخدم الخطاب الديني للتعمية على تجاوزات سلطته المتكررة وشرعنتها. في ظل هذا الواقع، يعتصم جزء غير قليل من المجتمع السوري بالصمت، وتتعطل المبادرات المدنية والسياسية تحت وطأة الخوف والرقابة. السلطة التي كان يُفترض أن تكون في خدمة المجتمع، أصبحت أداة لتكريس الولاء الشخصي، وتحويل الثورة إلى مشروع فردي يربط السلطة بالشخص لا بالدولة.

على الأرض، يسيطر الشرع على دمشق، إدلب، أجزاء واسعة من حلب وحماه، ومناطق من ريف حمص. لكنه لم يستطع فرض سلطته بالكامل على الشمال الشرقي والجنوب السوري، حيث ما تزال فصائل محلية وقوى أخرى تحتفظ بنفوذها في تلك المناطق. ومع ذلك، فإن استراتيجيته واضحة: التوسع التدريجي وتحويل كل منطقة يسيطر عليها إلى امتداد مباشر للسلطة المركزية، وتثبيت نفسه كزعيم لا ينازعه أحد. مناطق سيطرة الشرع تُحكم بأساليب التخويف والترهيب، فالذي يجرؤ على التعبير عن رأيه أو يرفض الانصياع للأوامر يُصبح عرضة للاعتقال أو الإخفاء القسري. حتى المنظمات الإنسانية، التي كانت تشكّل بارقة أمل للفئات المسحوقة، وهي الغالبية من السوريين، صارت أدوات رقابة، ووسائل لتطبيق سلوكيات السلطة الجديدة في المدارس والدوائر والمؤسسات الرسمية، مما يعكس مدى عزمها على التغلغل في جميع مناحي الحياة ومفاصل الدولة.

والرفض الذي حصل لهذه السياسات والممارسات، كما جرى في مناطق الساحل، قوبل من جانب السلطات بالقمع الممنهج، وبارتكاب المجازر. الأمر نفسه تكرّر في جبل الدروز، حيث تعرّض الدروز لانتهاكات ومجازر فظيعة صنّفتها منظمات دولية في خانة جرائم الحرب. ولم تنقطع التهديدات وحملات التجييش ضد مناطق الإدارة الذاتية، وهي المساحة الأكثر استقلالية عن السلطة المركزية في سوريا.

إن إعادة إنتاج نمط الحكم الجديد يُعيد إلى الأذهان نظام “الدولة الأمنية” التي حكمت سورياً عقوداً وحوّلتها إلى سجنٍ كبيرٍ وبلدٍ منبوذٍ. هذه الممارسات والتجاوزات، المدعومة بآلة دعائية وخطاب ديني، تخالف منطق العصر، وتعاكس التطور، وتناقض في الوقت نفسه طموحات غالبية المكونات السورية، وقواها الوطنية التقدمية والديمقراطية. إن الاستمرار في هذا النهج يهدّد بسدّ أي أفق للاتفاق على عقد اجتماعي يصون حقوق جميع المكونات السورية في الحرية والعدالة والمساواة. كذلك فإن الإصرار على هذه العقلية الإقصائية من شأنه تهديد وحدة سوريا، وعرقلة محاولات إعادتها للمحافل الدولية، ناهيك عن تصعيب الحصول على الأموال اللازمة لإعادة الإعمار، وإطلاق مشاريع تحقيق التنمية والاستقرار.

السوريون اليوم أمام مفترق طرق: إما مواجهة هذا الاستبداد الجديد، وإما الاستسلام لمحاولات تكرار نظام استبدادي شمولي قديم بزيٍّ جديد.

لقد ثار السوريون من أجل بناء مجتمع تعددي حرٍّ وديمقراطي، وليس من أجل استبدال طاغية بآخر. سلطة الشرع ليست هي الحل لتحقيق هذا المجتمع المأمول. بل على العكس هي تهديدٌ حقيقيٌ لسوريا أرضاً وشعباً. لذا فالسوريون، وعلى مختلف مشاربهم وتياراتهم السياسية والإثنية والدينية والمذهبية، بحاجةٍ إلى لملمة الصفوف لوضع حدٍّ لهذا الغبن المفروض عليهم، ولمنع تحوّل بلدهم سوريا مرةً أخرى إلى “سجنٍ مفتوحٍ” يُحكم بالقبضة الحديدية، ويُحكم بأساليب التلاعب والخداع والابتزاز.

نقلاً عن موقع المركز الكردي للدراسات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى