مانشيتمقالات رأي

ما وراء التهويل التركي لنزع سلاح (قسد)

محمود علي

مرةً أخرى، تعيد الدولة التركية طرح قضية سلاح قوات سوريا الديمقراطية ومعها وحدات حماية الشعب، إلى الواجهة، وتحاول جاهدة أن تضعه في سياقات مغايرة لأهدافها، وتدفع به ليغدو موضوعاً للنقاش والسِجال، وتعده كأحد التهديدات “الأكثر خطورة” على الأمن القومي التركي المزعوم، وتدعو إلى نزعه بطرق ملتوية وغير أخلاقية وغير قانونية أيضاً.

بداية يجب فهم ضرورات حمل السلاح من قبل مكونات شمال وشرق سوريا، والأطر العملية، وكذلك الإستراتيجية التي استدعت حمل السلاح، ورؤية آفاق مستقبله في ظل الأوضاع المتوترة التي تمر بها سوريا حالياً، إضافة إلى الإنجازات التي حققها هذا السلاح طيلة ثورة 19 يوليو/ تموز في روجآفاي كردستان ومناطق شمال وشرق سوريا وإلى يومنا هذا.

لا يُخفى على أحد أن الإستراتيجية التي اتبعتها وحدات حماية الشعب ومن بعدها قوات سوريا الديمقراطية، منذ البداية تمثلت بمبدأ دفاعي، والتجربة أثبتت صحة هذا المبدأ. فمنذ بداية أول هجوم على المناطق الكردية في جبل “بارسا خاتون” في عفرين وسري كانيه عام 2012، انبرت وحدات حماية الشعب والمرأة إلى الدفاع عنها ضد مجاميع ما كانت تطلق على نفسها “الجيش الحر” و”جبهة النصرة”، رغم أنها – أي الوحدات – كانت ضعيفة التسليح وقليلة العدد، حيث كانت في بداية تشكيلها، وتمكنت من خلال مقاومات كبيرة أن تطرد كل تلك المجاميع من المناطق الكردية، وتبسط الأمن والاستقرار فيها. وحدات حماية الشعب لم تلجأ إلى شن هجمات على أي من المدن، بل اضطرت للدفاع عن تلك المناطق التي تعرضت لهجمات غادرة ووحشية من قبل تلك المجاميع.

بعد تحرير سري كانيه، تزايدت الهجمات على مناطق روجآفا، بشكل منسّق، وبالارتباط مع أطراف إقليمية ودولية عديدة، بعد أن تم تقديم كل أشكال الدعم المادي والعسكري واللوجستي لتلك المجاميع المتطرفة. من جانبها اعتمدت الوحدات على شعبها، ولم تدخل في أي صفقات أو مساومات مع أي قوة أو طرف يحاول تمرير سياساته خلالها.

هجوم تنظيم “داعش” الإرهابي على كوباني، شَكَّلَ المنعطف التاريخي لمسار السلاح والمقاومة التي تخوضها وحدات حماية الشعب والمرأة. المقاومة البطولية لها ضد أعتى تنظيم إرهابي في العالم؛ لفت انتباه العالم أجمع، بعد أن فشلت جيوش دول في المنطقة، وكل تلك المجاميع المتطرفة من مواجهته، بل العديد منها بايعت التنظيم وانضمت إليه. هذا الاهتمام الدولي بمقاومة الوحدات، تطور ليصل إلى تقديم الدعم والمساندة لها في مقاومتها بكوباني، حينما وجدت أنها تسير في طريق تحقيق تاريخي لها. فالوحدات لم تتوسل أي طرف لتقديم المساعدة والسلاح لها، بل عُرِضَ عليها الدخول مع القوى الدولية في تحالف ضم أكثر من /72/ دولة ضد تنظيم “داعش” الإرهابي. وبعد تشكيل قوات سوريا الديمقراطية في عام 2015، تطور التحالف بينهما، بعد أن وجد العالم أجمع أن (قسد) هي القوة الأكثر مصداقية في محاربة التنظيم والأكثر وفاءً بوعودها لحلفائها، وتجسدت هذه الحقيقة على الأرض من خلال تحرير كامل الجغرافيا السورية من التنظيم الإرهابي، وفصلُها الأخير تم في مدينة الباغوز في 23 مارس/ آذار 2019.

هذه المصداقية لدى قوات سوريا الديمقراطية، دفعت الولايات المتحدة وقوات التحالف إلى زيادة تسليحها لها، وتزويدها بأنواع متطورة من الأسلحة، لتتمكن من دحر التنظيم، وتحافظ على أمن واستقرار مناطقها، خاصة بعد أن وجدت أنها ليست قوة معتدية، بل تحافظ على توازنها، ولها إستراتيجية دفاعية واضحة. فيما كل قوة عسكرية في سوريا امتلكت كميات من الأسلحة والعتاد، شنت هجماتها على الأطراف الأخرى، وخاصة على مناطق شمال وشرق سوريا. ولم يشكل سلاح قوات سوريا الديمقراطية في أي يوم من الأيام تهديداً لأي من الأطراف، بل حافظت به على وحدة سوريا وسيادتها، حتى ما قبل سقوط النظام البعثي.

طرح موضوع نزع سلاح (قسد) من قبل دولة الاحتلال التركي، الهدف منه ترك مكونات شمال وشرق سوريا دون غطاء حماية، وتعريضه للمجازر على غرار ما حصل في الساحل السوري والسويداء. الدولة التركية تسعى بكل إمكاناتها إلى نسخ تجربة باكور كردستان مع حزب العمال الكردستاني على روجآفا ومناطق الإدارة الذاتية، عبر ممارسة الضغوط السياسية والعسكرية لتجريدها من سلاحها، وبالتالي وضعها وجهاً لوجه مع قوى تكفيرية تحاول شن الهجمات عليها من كل حدب وصوب.

اتفاقية 10 مارس/ آذار ما بين القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي” والرئيس السوري للمرحلة الانتقالية “أحمد الشرع”، تنص في إحدى بنودها على دمج (قسد) مع الجيش السوري المستقبلي، بشكل كتلة، تحفظ لها كينونتها وخصوصيتها في عدة أمور، منها الانتشار في مناطق شمال وشرق سوريا، وكذلك في المناطق السورية الأخرى، إلى جانب الاحتفاظ بكامل سلاحها. وعلى ضوء ذلك يغدو نقاش موضوع سلاح (قسد) مضيعة ولا معنى له، أو نوعاً من خلط الأوراق والصيد في المياه العكرة، وهي بكل الأحوال لن تأتي بأي نتيجة.

ولا يمكن مقارنة سلاح (قسد) وتكوينها بأي من تلك الفصائل التابعة لتركيا، حيث أنها ارتكبت الكثير من الانتهاكات والممارسات اللا إنسانية والتي ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية. ورغم أن الحكومة المؤقتة تدّعي أنها توجه الفصائل العسكرية عبر دمجها تحت سقف ما تسمى “وزارة الدفاع”، إلا أن الواقع يدحض كل تلك المزاعم، فهي ما تزال منفلتة، تمارس التشبيح والقتل وأعمال اللصوصية، وتعمل بأوامر تركية مباشرة، وكان الأحرى بالحكومة السورية المؤقتة أن تنزع سلاح تلك الميليشيات المرتزقة، لا أن تضغط باتجاه نزع سلاح (قسد).

إن أي دعوة تنطوي على نزع سلاح (قسد) تعني بشكل مباشر زج سوريا في أتون حرب أهلية ودوامة من العنف الأعمى، فسلاح (قسد) هو الضابط والناظم لأي توجه سوري في ضبط الأمن وعدم الانجرار خلف مشاريع إقليمية من شأنها إعادة سوريا إلى المربع العنفي الأول، وبالتالي خروج الأمور عن السيطرة. الدعوات من أهالي الساحل والسويداء في دخول قوات سوريا الديمقراطية مناطقهم لا تعبر عن عبث، بل مفادها حقيقة جوهرية أن سلاح (قسد) وانضباطها وقدرتها على ضبط الأمور كفيلة بالحفاظ على الأمن المجتمعي، بغض النظر عن الانتماء الطائفي أو المذهبي أو العرقي. وكان الأجدى بالحكومة السورية إن كانت واعية ومدركة لأفعالها وقراراتها، وليست متهورة وشعبوية تعتمد على إثارة الفتن الطائفية والعشائرية، أو تنفذ الإملاءات الخارجية، كان عليها أن تبني نفسها وفق حقيقة الاعتماد على قوة سلاح (قسد) للوصول بسوريا إلى بر الأمان، لا أن تدعو إلى نزعه، وتُشغل الرأي العام به عبر بروباغاندا حمقاء وجوفاء، مقابل تجاهل كل مطالب الشعب السوري، وتدفع للواجهة سلاح (قسد)، وكأنه موجه على رأس النظام، وليس سنداً له.

الرد الواضح من الإدارة الذاتية جاء على لسان رئيسة دائرة العلاقات الخارجية “إلهام أحمد” في حوارها مع قناة “روداو”، حيث أفصحت بشكل لا لُبس فيه أن “نزع السلاح يعني الموت، وهو بالنسبة لنا خط أحمر”.

من البلاهة أن تُقدم (قسد) على تسليم سلاحها إلى قوة ما تزال الشكوك تحوم حولها في جذرها الإرهابي، وماضيها وممارساتها اليومية شاهدة عليها، والمجتمع الدولي إن كان اليوم يهادن هذه الحكومة لتمرير بعض مصالحه، إلا أنه يدرك تماماً ماهية هذه الحكومة وعلاقاتها المشبوهة، ولن يجازف للمطالبة بضرورة نزع سلاح (قسد) الذي طالما حارب الإرهاب وجنَّب بلادها الكثير من ويلاته وأعماله الإرهابية.

وإن كانت الدولة التركية اليوم قد وجدت نفسها في مأزق كبير، فهي لا تستطيع أن تتراجع عن المشروع الذي أطلقه القائد الكردي “عبد الله أوجلان” المتمثل بـ”السلام والمجتمع الديمقراطي”، بعد أن أقدم حزب العمال الكردستاني على حل نفسه، والتخلي عن الكفاح المسلح، فهي غير قادرة على شن أي عدوان جديد على مناطق روجآفا وشمال وشرق سوريا، بل تعمل وفق “دبلوماسية الضغط” على الإدارة الذاتية و(قسد) لحملها على القبول بشروط دمشق وتسليم سلاحها لها. وقد وضع القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي” النقاط على الحروف، حيث أوضح في حواره الأخير مع قناة الحدث أن “مكونات شمال وشرق سوريا لن تقبل تسليم السلاح دون ضمانات دستورية واضحة”. ولا يقبل بأي شكل من الأشكال أن تتخلى (قسد) عن سلاحها، وتحت أية شروط كانت، خاصة أن الهجمات التي شنها المرتزقة قبل يومين على بعض مناطق تواجد (قسد) تشكل إنذاراً لعدم الإقدام على هذه العملية بالمحفوفة بمخاطر عديدة.

الاعتقاد الراسخ أن قضية سلاح (قسد) لن يكون موضوعاً للمساومة في أي حوارات قادمة مع دمشق أو أي طرف آخر، خاصة أن أنقرة مستبعدة إلى الآن من أي ترتيبات من شأنها أن تساهم في تقريب وجهات النظر بين الإدارة الذاتية ودمشق، والسعي التركي لن يغدو أكثر من نفخ في قُربَةٍ مثقوبة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى