مانشيتمقالات رأي

دمشق والمؤتمر الكردي

محمود علي

شكَّلَ انعقاد مؤتمر وحدة الصف والموقف الكردي في روجآفاي كردستان، منعطفاً تاريخياً وحاسماً في نضال الشعب الكردي وقواه السياسية على طريق نيل حقوقه المشروعة، ويعد رافعة وطنية كردية للأجزاء الأخرى من كردستان، وليس من المبالغة إذا قيل عنه بأنه “مؤتمر وطني كردستاني للأجزاء الأربعة من كردستان”، لطالما أن قوى وممثلي معظم الأجزاء شاركوا في فعالياته.

ردود الفعل والمواقف حول نتائج وقرارات المؤتمر، جاءت متباينة، حيث رحبت معظم الأطراف والقوى الدولية والإقليمية به، فيما رفضته بعضها، انطلاقاً من مواقف إيديولوجية وقوموية عنصرية معادية لكل أشكال التقارب الكردي – الكردي، بل تعده خطراً يهدد حاضرها ومستقبلها، دون أن تعي أسباب رفضها، ودون أن تبرر رفضها بأساليب عقلية ومنطقية، بل تكيل التهم جزافاً، لمجرد أن الكرد اتفقوا فيما بينهم.

لعل موقف الرئاسة السورية، ومن خلال البيان الصادر عنها، جاء مخيباً للآمال، وذهب بعيداً في إطلاق توصيفات غير واقعية على البيان الختامي الصادر عن المؤتمر، وكذلك على المذكرة السياسية والبرنامج الذي تم صوغه ووافق عليه أعضاء المؤتمر، ولم يتوجه إلى إبراز المعاني الحقيقية لكل فقرة في البرنامج، فحاول أن يقوِّل البيان ما لم يقله، ويحمّله ما لم يعنيه أو يشير إليه. وكان يُفترض به أن يأخذ البيان والبرنامج على عواهنه، لا أن يعمد إلى تحوير مفرداته، والنظر إليه من زاوية إيديولوجية صرفة، دون أن يتحمَّل عناء تقديم قراءة موضوعية ومنصفة له، وكان الأحرى به أن يتقدم بالمباركة إلى الكرد، ففي النهاية المؤتمر خلص إلى قرارات وطنية متقدمة جداً، يمكنها أن تساهم بفعالية وقوة في مسيرة إنقاذ سوريا وانتشالها من مستنقع الأزمة والحرب.

بداية توجيه الاتهام للمؤتمر ومن خلاله إلى القوى السياسية الكردية بالانفصال، وتهديد وحدة سوريا وتقسيمها، باتت عبارة ممجوجة وعفا عليها الزمن.

لطالما أن النظام البائد كان يحاول إلصاقها بالحركات الكردية كلما أقدمت على خطوة في مسيرة نضالها لنيل الحقوق الكردية، ويخال للمرء أن الرئاسة السورية استجلبتها واستحضرتها من ذاكرة حزب البعث، لتعيد تركيب مفردات واهية لا معنى له في ظل الظروف المتغيرة باستمرار التي تشهدها سوريا، ويُفهم منها أنها لا تأخذ بعين الاعتبار التحولات الجيوسياسية في المنطقة والعالم، وتعيش في عالمها الخيالي الافتراضي منفصلة بشكل كامل عن الواقع. ففي قواميس القومويين والإسلامويين كلمة “الكرد” مرادفة دائماً لـ”الانفصال وتقسيم البلاد” وكأن الكرد غرباء وليسوا من الأصلاء في بناء سوريا منذ أول عهدها. ويبدو أن حكومة دمشق أيضاً مصابة بداء “الفوبيا الكردية”.

الأمر الآخر المثير للريبة والذي يثير الدهشة، أن البيان الرئاسي السوري صدر بعد أن أعلنت تركيا موقفها الرافض، بل المعادي، للمؤتمر ومخرجاته، ما يشير إلى وجود تناغم وتنسيق بينهما حيال القضية الكردية وحلها، وكان الأجدى بالرئاسة السورية أن تتجنب الوقوع في الأفخاخ التركية وعدم التأثر بها، وأن تبادر إلى حصر تفكيرها واهتمامها بالداخل السوري بشكل مستقل، دون الوقوع تحت الإملاءات والمؤثرات الخارجية في اتخاذ مواقفها، وأن تعزز الثقة الوطنية بين السوريين، بعد أن بدأت صورتها تهتز داخلياً وخارجياً، إثر عدد من الأعمال الممنهجة الكارثية التي وقعت فيها، وليس أقلها عدم قدرتها على وقف الشحن والاستقطاب الطائفي المقيت في الساحة السورية، فكان الأجدر بها أن تجد في المؤتمر ومقرراته نقطة استناد، ومنطلقاً يمكن أن تستثمرها في إعادة ثقة السوريين بها، وتخلق حالة وطنية عامة، تجذب إليها كل المعارضين لها، ولكن يبدو من خلال بيانها أن تفوّت على نفسها هذه الفرصة أيضاً.

الادعاء بأن مخرجات المؤتمر تتناقض مع بنود الاتفاقية التي وقعها قائد قوات سوريا الديمقراطية الجنرال “مظلوم عبدي” مع الرئيس المؤقت “أحمد الشرع”، يفتقر إلى الدقة والموضوعية، أو أنها محاولة لخلط الأمور، لمجرد معارضة المؤتمر وتوجهاته. فالوثيقة التي أقرها المؤتمر هي رؤية كردية لحل القضية الكردية في سوريا، إضافة أنها قدمت رؤية واضحة لحل الأزمة السورية، وشكل نظام الحكم المستقبلي من خلالها مطالبته بنظام لا مركزي، وليس فيدرالي كما جاء في بيان الرئاسة، وتلك المطالبة تتقاطع مع رغبة معظم السوريين والقوى الوطنية والديمقراطية. والكل يستغرب صدور هكذا بيان من رئاسة ما تزال في مرحلة جنينية، ولا قدرة لها حتى على ضبط العناصر المنفلتين في الأحياء والشوارع، وكل يوم يفتعلون لها العديد من المشاكل التي هي بغنى عنها.

وفيما طالب المؤتمر بضمان حقوق الكرد في الدستور السوري المقبل، واعتبار اللغة الكردية اللغة الثانية والرسمية في البلاد، فإن الإعلان الدستوري الذي صدر قبل شهرين لم يشر إلى الكرد وحقوقهم مطلقاً، والبيان الرئاسي تطرق إليها بشكل هلامي وفضفاض، دون إبراز أي محددات دستورية أو قانونية وحتى سياسية، وكان كلاماً متماهياً مع حالة عائمة من خلال القول “نؤكد أن حقوق الإخوة الأكراد، كما جميع مكونات الشعب السوري، مصونة ومحفوظة في إطار الدولة السورية الواحدة”.

التلميح بشكل غير مباشر باللجوء إلى العنف في تغيير مواقف الكرد، من خلال القول بأن “الدعوة للفيدرالية تتعارض مع مضمون اتفاقية عبدي – الشرع”، تعتبر ضرباً من الجنون وعدم التفكير بمنطقية. فالاتفاقية وقعت بضمانة من القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا، وكذلك بريطانيا وألمانيا، ولا يمكن لأي طرف كان أن يخل بها أو يتنصل منها، لأنها أخذت صفة “دولية”. كذلك موازين القوى في الداخل السوري، لا تسمح بالدخول في دائرة العنف وتجديده مرة أخرى. على النقيض من ذلك؛ الشرع وحكومته بحاجة ماسة إلى قوة وسلاح (قسد) لفرض سيادة الدولة السورية على جميع الأراضي، وهو ما سيتحقق عاجلاً أم آجلاً، وهذه رغبة تحدو جميع السوريين، باستثناء فئة صغيرة جداً لها أجنداتها المرتبطة بالخارج، والحكومة السورية تدرك جيداً هذا الأمر. وإن كانت الحكومة السورية تلوح بالقوة العسكرية التركية – وهو ما أستبعده بشكل شخصي ولعدة أسباب لا مجال لذكرها الآن – فإنها تعد مراهنة خاسرة وستزيد من عزلة النظام الذي يتشكل في دمشق، داخلياً وخارجياً.

كما أن تشديد المؤتمر على الحوار بين السوريين وقواه السياسية والوطنية، وخاصة الحوار مع حكومة دمشق من خلال وفد سيعلن عنه في الأيام القادمة، ويتكون من عشرة أشخاص، هو الضمانة لحل جميع القضايا عن طريق الحوار. فالوثيقة التي أقرها المؤتمر، هي بالنهاية خاضعة للتفاوض والحوار، يمكن أن يطرأ عليها التعديل والتغيير في بنودها، فهي بالنهاية ليست كتاباً منزَّلاً، والكرد بطبيعتهم يبدون مرونة كبيرة في التفاوض والحوار، ولكن لديهم ثوابت لا يمكنهم التخلي عنها. والدعوة للحوار تبدد أي مخاوف لدى دمشق من قبيل “الانفصال وتهديد وحدة سوريا”، وكان على الأخيرة أن تبدي مقاربة إيجابية من المؤتمر، وألا تسوق جملة من الاتهامات غير المنطقية للمؤتمر، بل حتى لم تتطرق إلى المؤتمر بشكل مباشر، جل كلامها كان موجهاً إلى قوات سوريا الديمقراطية، رغم أن جميع الأطراف السياسية الكردية شاركت في الإعداد للمؤتمر، و(قسد) لعبت دور المساند من خلال قائدها العام الجنرال “مظلوم عبدي”.

إطلاق أحكام جائرة جاهزة ومعلبة على الكرد وحراكهم السياسي، يعيد سوريا إلى سابق عهدها، في التهميش والإقصاء، وكذلك تعيد إحياء ثقافة البعث بكل تبعاتها السلبية، وتغلق كل مساحات الحوار لإنقاذ سوريا من أزمتها المجتمعية والثقافية قبل السياسية والعسكرية، وأثبتت سنوات الأزمة أنه لا يمكن لأي طرف أن يستفرد بإدارة البلاد وفق تصورات وإيديولوجيات مسبقة، ولا أحد يريد إعادة إنتاج دولة فاشلة على غرار البعث. وكذلك نموذج الدولة الدينية ذات اللون الواحد، أيضاً سيدخل سوريا في متاهات اللا حل والمجهول. فما طرحه الكرد في مؤتمرهم، كفيل بأن يضع الأزمة السورية على سكة الحل، ويعزز وحدة البلاد وقوتها، كما أكد عليها الجنرال “عبدي” في كلمته في المؤتمر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى