الفيدرالية في سوريا.. بين النظرية والتطبيق

قاسم عمر
في خِضَمِّ الأزمة السورية المستمرة منذ أكثر من عقد، ظهرت نماذج بديلة في الحكم والإدارة، سعت إلى تقديم حلول عملية تتجاوز مفاهيم الدولة القومية التقليدية والانقسام الطائفي والعرقي. من بين هذه النماذج، برز مشروع “الأمة الديمقراطية” الذي طرحه المفكر الكردي عبد الله أوجلان، وتبنته الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كمبدأ أساسي في بناء نظامها السياسي والاجتماعي، ويشكل هذا المشروع محاولة لتطبيق فيدرالية من نوع خاص، تقوم على التعددية والديمقراطية المباشرة، لا على التقسيم الجغرافي أو الإثني الضيق.
الفيدرالية وفق مفهوم الأمة الديمقراطية لا تهدف إلى تقسيم البلاد، بل إلى إعادة توزيع السلطة على أسس ديمقراطية، تسمح لكل مكون مجتمعي بأن يدير شؤونه بنفسه، ضمن إطار وحدة سوريا. وقد وجدت هذه الفكرة حاضنة حقيقية في مناطق الشمال الشرقي، حيث الكثافة الكردية، إلى جانب وجود العرب، السريان الآشوريين، التركمان، والشركس، ما أتاح بيئة مناسبة لتطبيق نظام ديمقراطي تعددي في قلب منطقة مليئة بالصراعات القومية.
يقوم نموذج الأمة الديمقراطية على عدة ركائز أساسية، من أبرزها الديمقراطية التشاركية من القاعدة إلى القمة، وتمكين المرأة، والاعتراف بالتنوع الثقافي واللغوي، والعدالة الاجتماعية. في هذا النموذج، تُدار المجتمعات من خلال “الكومينات” (لجان الأحياء)، والمجالس المحلية والإقليمية المنتخبة، حيث يتم اتخاذ القرارات بشكل جماعي ومباشر، بما يقلّص من سلطة المركز، ويمنح السلطة الفعلية للمجتمع المحلي، هذا النوع من التنظيم يهدف إلى القضاء على المركزية المفرطة التي ساهمت في إنتاج الاستبداد في الأنظمة الدولتية لعقود.
واحدة من أبرز سمات هذا النموذج هي إشراك المرأة في جميع مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية. إذ تم اعتماد نظام “الرئاسة المشتركة”، حيث يتشارك رجل وامرأة رئاسة كل مؤسسة أو هيئة، ما جعل من هذا النظام رائداً في تمكين المرأة مقارنةً بسائر المناطق السورية. إضافة إلى ذلك، أُنشئت مؤسسات نسائية خاصة، ومحاكم تهتم بالقضايا المتعلقة بالمرأة، في خطوة تهدف إلى مواجهة الموروثات الذكورية التي تهيمن على معظم المجتمعات في المنطقة.
من الناحية العملية، تمكنت الإدارة الذاتية من بناء مؤسسات تعليمية وخدمية واقتصادية ضمن إطار هذا النموذج، رغم محدودية الموارد والحصار المفروض من عدة أطراف. في التعليم، اعتمدت الإدارة مبدأ التعدد اللغوي، حيث يتم تدريس الأطفال بلغاتهم الأم كاللغة الكردية والعربية والسريانية، وهو أمر لم يكن متاحاً في ظل النظام المركزي الذي ساد لعقود. كما جرى تطوير مناهج محلية تركز على مفاهيم التعايش، والبيئة، والديمقراطية، بما يتماشى مع فلسفة الأمة الديمقراطية.
وعلى المستوى الأمني، شكلت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) العمود الفقري في الدفاع عن مشروع الإدارة الذاتية، حيث ضمّت مقاتلين من مختلف المكونات، وقد لعبت دوراً محورياً في محاربة تنظيم داعش الإرهابي. هذا الجانب الأمني شكّل عامل استقرار نسبي، مكّن من ترسيخ بعض المؤسسات، وإطلاق المشاريع الخدمية في مناطق الإدارة الذاتية.
مع اقتراب مرحلة الحسم السياسي في سوريا، يكثر الحديث عن شكل الدولة السورية بعد سقوط النظام الحالي، ويبرز سؤال جوهري: ما هو النموذج الأنسب لبناء دولة عادلة ومستقرة بعد سنوات طويلة من الاستبداد والدمار؟ في هذا السياق، يطرح نموذج “الأمة الديمقراطية” نفسه كخيار واقعي وضروري، خاصة إذا تم اعتماده في إطار نظام فيدرالي لامركزي يضمن حقوق جميع المكونات، ويمنع عودة الاستبداد بصيغته المركزية القديمة.
لقد أثبتت التجربة السورية أن النظام المركزي، الذي تركزت فيه السلطة بيد فئة ضيقة، فشل في إدارة التعدد القومي والديني والطائفي في البلاد، وكان أحد الأسباب الرئيسية في اندلاع الثورة. لذلك، لا يمكن تصور بناء سوريا جديدة على الأسس القديمة ذاتها. وهنا تأتي أهمية النظام الفيدرالي اللامركزي، الذي يمنح السلطات المحلية القدرة على إدارة شؤونها، ويخلق توازناً حقيقياً بين المكونات.
النظام الفيدرالي اللامركزي، خاصةً عندما يُبنى على قاعدة “الأمة الديمقراطية”، لا يعني تقسيم البلاد أو تهديد وحدتها كما يروّج البعض، بل على العكس، هو محاولة لإعادة توحيد المجتمع السوري الممزق على أسس جديدة تقوم على التعددية والاعتراف بالاختلاف. وفق هذا النموذج، يبنى النظام من القاعدة إلى القمة، بحيث تكون المجتمعات المحلية هي صاحبة القرار في شؤونها الخدمية والإدارية والثقافية، مع الحفاظ على وحدة الدولة سياسيًا وسياديًا.
ما يجعل نموذج الأمة الديمقراطية مهمًا في المرحلة ما بعد سقوط النظام هو التركيز على إشراك جميع فئات المجتمع، بما فيها النساء، في إدارة شؤونهم، الأمر الذي يعزز من شعور الانتماء والثقة في الدولة الجديدة. كما أن هذا النموذج لا يبني سلطته على القومية أو الدين، بل على مفهوم المواطنة الحرة، وهو ما تحتاجه سوريا التي أنهكتها صراعات الهويات والانقسامات الطائفية.
بعد سقوط النظام، ستكون الحاجة ملحة إلى نموذج يضمن عدم عودة الاستبداد أو احتكار السلطة مرة أخرى، وهنا تكمن الأهمية العملية للنظام الفيدرالي اللامركزي. إذ يضمن توزيع السلطات بين المركز والأقاليم، ويمنح كل منطقة خصوصيتها الثقافية والإدارية والسياسية، مع الحفاظ على السيادة الوطنية ووحدة الأراضي السورية. كما يخلق هذا النموذج آليات رقابة ومساءلة محلية تساهم في مكافحة الفساد وتفعيل المشاركة الشعبية في صنع القرار.
في نموذج الأمة الديمقراطية، يُنظر إلى المجتمعات على أنها وحدات فاعلة بذاتها، لا تابعة لمركز قوي، وهو ما يعزز مفاهيم الإدارة الذاتية، والاعتماد على القدرات المحلية، كما أن اعتماد الديمقراطية التشاركية – أي إشراك المواطنين في جميع مفاصل القرار، من البلديات إلى البرلمانات المحلية – يُشكل كسرًا حقيقيًا لثقافة السلطة الرأسية التي هيمنت لعقود.
وإلى جانب البنية السياسية، يعطي هذا النموذج اهتمامًا خاصًا بالعدالة الاجتماعية والبيئة وتمكين المرأة، وهي أبعاد مهمة في أي عملية إعادة بناء وطني، وخصوصًا في دولة عانت من الحرب، وتحتاج إلى مصالحة مجتمعية شاملة، وبناء مؤسسات جديدة من جذورها.
إن اعتماد النظام الفيدرالي اللامركزي وفق نموذج الأمة الديمقراطية لا يشكل فقط ضرورة سياسية لبناء دولة عادلة بعد سقوط النظام، بل هو أيضاً حاجة مجتمعية لضمان الاستقرار، والتماسك ضمن مجتمع متنوع.
فالتعدد القومي والديني في سوريا لا يجب أن يُنظر إليه كعامل تهديد، بل كمصدر غنى، شرط أن يُدار في إطار ديمقراطي تشاركي، يحترم الحقوق ويكفل الحريات.
في هذا السياق، يمكن للفيدرالية أن تلعب دوراً محورياً في منع النزاعات المستقبلية، من خلال تقديم حلول محلية للمشكلات المحلية، وخلق شعور فعلي بالشراكة والانتماء لدى جميع المواطنين، بصرف النظر عن خلفياتهم القومية أو الدينية. كما أن إشراك المجتمع المدني والنساء والشباب في عملية بناء المؤسسات سيكون عاملاً جوهرياً في ترسيخ هذا النموذج.