أخبارمانشيت

إضاءة على وقائع واحتمالات المشهد السوري

كمال حسين

لقد بات واضحاً أن حكومة الشرع، ومنذ وصولها إلى السلطة في 8 كانون الأول الماضي؛ لم تَدّخَرِ جهداً من شأنه أن يمزق العقد الوطني الذي توافق عليه جيل الوطنيين السوريين، الرواد في ثلاثينيات القرن الماضي إلا وقد بذلته.

ففي الواقع لم يكن ذلك التاريخ موعداً لمجرد سقوط نظام سياسي استبدادي فاسد، فشل في إنجاز مهمات وطنية واجتماعية تتطلبها مسؤولياته السياسية والأخلاقية. الأمر الذي استدعى انطلاق حراك جماهيري ثوري أسفر في النهاية، كما هو الحال في باقي ثورات الشعوب عن خروج فريق ذي جذور طبقية اجتماعية، وبنية فكرية سياسية تمثلت بطغمة الأسد وفريقه البعثي، ومجيء فريق آخر تمثل بفريق أحمد الشرع ذي الخلفية الفكرية الإسلامية الراديكالية.

بل المسألة أبعد من ذلك بكثير، والانقلاب الحاصل يحمل مخاطر عميقة تطال شكل الدولة السورية ومضمونها برمته، وتشبه في تفاصيلها فسخ عقد شراكة من قبل ورثة أحد فريقين كان آباؤهما قد اتفقا بموجبه على تنظيم العلاقة بينهما.

فالحق يقال، أننا في الأشهر القليلة الماضية قد شهدنا فصلاً يكاد يكون سريالياً في إدارة البلاد، لم نشهد مثيلاً له خلال العقود الستة السابقة من حكم البعث، ولا خلال حقبة الوحدة مع مصر، أو في حقبة حكم البرجوازية الوطنية بعد الاستقلال، وحتى خلال الانقلابات العسكرية المتتالية في الخمسينات -الشيشكلي – الحناوي – حسني الزعيم. إذ لم يتجرأ أي حاكم أو حزب ممن تداولوا على السلطة بعد الاستقلال عن فرنسا في العام ١٩٤٦؛ أن يتجرأ في اليوم التالي على كنس أي مكون من مكونات الدولة والمجتمع من مفاصل السلطة والدولة، حيث بلغ التعدي على المكونات السورية من خارج مدرسة الإسلام السياسي، وبخاصة العلويين منهم؛ مستوى لا يقبله عقل أو شرعة حقوقية أو إنسانية، هذا المكون الذي تزعم القاعدة الشعبية لحكومة الشرع، أنه قد استأثر بالسلطة طيلة عقود ستة، أصبح مكوناً مرزولاً بالكامل، ومصاباً بلعنة الأسد، وبنعت الفلول، ومحرماً على المنحدرين منه شغل وظيفة رئيس دائرة في مؤسسة، أو حتى رئيس بلدية من الدرجة الثانية أو الثالثة، كما أنه أصبح مُغَيَّباً وبالمطلق عن مؤسسة الأمن والجيش، وليس هذا وحسب، بل أصبحت نغمة استبدال السكان العلويين من بعض أجزاء الجغرافيا بسكان مجنسين جدد من أصول شيشانية أو تركية أو صينية إيغورية أمراً واقعاً.

ومع انطلاق موجة المجازر الجماعية في آذار الماضي في الساحل السوري، والتي طالت في أحد فصولها المكون المسيحي، عبر مجازر الكنائس في الدويلعة، ثم بعد تدفق موجات النفير الهمجي لقوات البدو والعشائر والأمن العام أخيراً إلى السويداء، معقل مؤسسي الدولة الوطنية السورية، ومسقط رأس قائد الثورة السورية الكبرى عام 1925، تبين أن سوريا اليوم دولة محتلة من قبل نفر لا يعرف ولا يعترف بوطن اسمه سوريا. نفر من إسلاميين متطرفين، ولاؤه لدول خارجية ومراكز تأثير تعمل في خارج الحدود، تُسَيّرهُ استخباراتها، ولا يخجل من رفع علمها أو التعامل بعملتها، وتبني أجنداتها، والذي حصل بالضبط لم يكن سقوط لنظام سياسي، بل سقوط لوطن، وانهيار لنسيج اجتماعي كان يدعى في زمن سابق الشعب السوري، وتجويف لمعنى وخريطة دولة اسمها سوريا، إنها الكارثة الوطنية بعينها، حين يشعر شعب بغالبية مكوناته إنه قد أصبح ضيفاً ثقيلاً في أرض آبائه وأجداده، وبأن التركستاني والشيشاني أحق منه في ملء فراغ الدولة.

 إنها المهزلة السورية التي لخصها أحد السياسيين السوريين المخضرمين بالتوصيف التالي: لقد قاتلنا وقاتل الوطنيون السوريون تنظيم داعش الإرهابي خلال السنوات الماضية، وقد هزمناه ثم جاء أخيراً من استعان بفلوله، جمعها وأخذها إلى العاصمة، ثم أسند لرموز هذا التنظيم مهام قيادة الدولة، ويريدوننا الآن أن نعمل بأمرته، وتحت قيادته.

لا يجادل أحد الآن حول إن داعش هي من تحكم الآن، وأن الدولة السورية والمجتمعات السورية أمام منعطف كبير، وما كان واقعاً مُسَلَّمَاً به قبل أشهر أصبح اليوم موضوع مراجعة كبير، وثمة فواجع قد أصابت الاستقرار الاجتماعي، ومازالت تتداعى فصولها، وأصبح الكلام الدارج الآن، ماذا بعد السويداء؟ ودور أي منطقة أو طائفة؟ للهجوم عليها الآن، هل باتجاه مناطق سيطرة قسد؟ أم إلى الساحل مجدداً لإكمال ما بدأ به في آذار، وفي هذا الجو المكهرب من اشتداد سعير المجازر الداعشية بحق جميع السوريين المعترضين أو المتحفظين على ولايتهم، ومع دخول الطبيعة طرفاً إضافياً في زيادة معاناتهم حيث الحرائق المعتمدة في أكثر من مكان، والذي خلق مناخاً نفسياً بدأ يدفع السوريين إلى الخروج من ثيابهم وبالكثير الكثير من تاريخهم، فإن المضحك المبكي هو صوت أنقرة الذي يردد صباح مساء “لا نقبل بالفدرالية في سوريا، لا نقبل بتقسيم سوريا، يجب على قسد أن تسلم سلاحها للدولة في زعم أن هناك دولة.

نعم، إلى داعش وإلى جيش داعش ودستور داعش، ودون أي تأويل آخر تدعو تركيا السوريين، بكل ألوانهم إلى ترك مقاليد أمرهم، وتسليم مصيرهم، وفيما تزداد الصورة وضوحاً مع كل ساعة تمر، يمكن للمراقب التوقف عند ملاحظات عدة منها، أولاً، تطور المواقف، وتبلور الاستقطابات في أوساط الرأي العام السوري، وخاصة في صفوف المنحدرين من الأقليات العرقية أو الدينية، وبين جمهور الفئات المؤمنة بعلمانية الدولة، لناحية ضرورة القطع مع نمط الدولة المركزية الواحدة وذات الهوية العرقية أو الدينية الواحدة، وباستحالة العودة إلى مثل نماذجها.

ثانياً، ازدياد الزخم لمشروع قسد في اهتمام الإعلام العالمي، وفيما تركز عليه تصريحات قادة دول العالم الفاعلة، كما يسجل تراجع ونكوص خطوات التطبيع مع سلطات الشرع بعد أن كانت قد سجلت اندفاعاً نسبياً وأولياً.

ثالثاً، بروز روح المبادرة، وتنامي خطاب المسؤولية الوطنية، ونبرة المواجهة والتحدي حيال قوى الإرهاب في تصريحات قادة قسد، ولا سيما التركيز الدائم في كلام الجنرال مظلوم عبدي على عناية قسد بأمن وسلامة ودور جميع الأقليات والمكونات في بنية الدولة السورية المنتظرة، وكذلك في تصريحات الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية السيدة إلهام أحمد، حين قالت: “اللاذقية في قلبنا، وآمن الساحل من أمن قامشلو”. رابعاً، تتسجل ملامح قلق وطني عام، وتساؤلات تسود جميع المكونات من سكان المدن وفعالياتها الاقتصادية والاجتماعية والأكاديمية، وحتى بين الأوساط العربية السنية التي كانت محسوبة في البداية على حكومة الشرع، وحتى بين المتعاطفين مع فكرة الإسلام السياسي، وحيث يتردد الحديث عن تواتر حركات الاحتجاج والتظاهر ضد حكومة الشرع الفاشلة في تحقيق حلم السوريين بالعدالة والاستقرار، ولا مبالغة في الاستنتاج، بأن كل المؤشرات تتجه الآن إلى أن سيناريو شبيه بسيناريو مصر، سيناريو حكومة مرسي قد صار على الأبواب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى