السياسة التركية تترنح أمام مشروعي الحـ.ـرب والسلام

كمال حسين
إن من يتابع واقع السياسة التركية ومعادلاتها هذه الأيام؛ يلاحظ أن النزعة الاستعلائية والعدوانية التي تميزت بها خلال العقود الماضية قد بدأت تترنح تحت تأثير عدد كبير من التحديات، على رأسها مشروعي الحرب والسلام، وعلى وقع الاشتباك مع نوعين أساسيين من الضغوط والمواجهات.
الأول، المواجهة مع المشروع الإسرائيلي على قاعدة تناحر المشاريع. هذا الصِدام المستجد، والذي لم يكن قائماً قبل عقدين من الزمن، حيث لم يكن قد تبلور المشروع العثماني الإسلاموي بعد. وحيث لم يكن في الأجندات التركية مشاريع توسعية أو أحلام إمبراطورية كبيرة يوم سيطرة الأحزاب العلمانية على الحكم، وتفوق القيم الأتاتوركية في دستور الدولة التركية، بالإضافة إلى تخلق سياسة حكوماتها المتعاقبة بهندام منضبط ضمن قواعد وأولويات جبهة التحالف الأطلسية.
أما بعد انطلاق ظاهرة ربيع الشعوب (الربيع العربي) في العام 2011 ، وبروز الطابع الإسلامي ذي النكهة العثمانية في قمرة القيادة لثورات ذلك الربيع؛ فلا شك بأن إسرائيل قد استشعرت بخطر النشاط الإسلامي التركي، والذي نتج عنه حركات جهادية متطرفة تمتهن القتل والإرهاب على شاكلة داعش والنصرة، ولابد أن تكون دوائر صنع القرار في الدولة العبرية قد وضعت في حسابها إمكانية نشوء تحالف إسلامي سني شيعي تديره تقاطعات إيرانية تركية مشتركة؛ تمر من بوابة شعار تحرير القدس، ووقف تهويد الأقصى. هذه الحسابات التي تيقنت السياسة الإسرائيلية من صوابيتها؛ سيما بعد معارك طوفان الأقصى وحرب غزة في أكتوبر 2023 وقد جاء الخبر اليقين الذي أشعل المخاوف الإسرائيلية إلى حدها الأقصى مع سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، ووصول جبهة النصرة بقيادة الجولاني – أحمد الشرع، وبدعم تركي واضح إلى القصر الجمهوري بدمشق.
هذا الوصول الذي قد حظي بقبول إسرائيلي مؤقت كمدخل لإبعاد إيران وحزب الله عن المسرح السوري، وكمرحلة مثالية لتفكيك قدرات جيش النظام السوري السابق، إلا أن الموقف بدأت تتغير سريعاً مع ظهور الاندفاعة التركية لاجتياح الدولة السورية وأسلمتها، وبما يتجاوز ما كان حاصلاً مع إيران، أما بعد حصول مجازر الساحل والسويداء بحق المكونات الأقلوية، وانكشاف تورط ما يسمى بالأمن العام والفصائل الإرهابية المحسوبة على تركيا فيها؛ فلا شك بأن الموقف الإسرائيلي من الدور التركي قد يتطور إلى حد الصِدام والقطيعة، وبما يسمح بالقول إن تركيا تواجه خصماً صعباً، والمواجهة التركية الإسرائيلية باتت حتمية، وتتأثر بشكل كبير، وقد امتدت إلى قبرص واليونان، حيث تقول تقارير إخبارية إن تنسيقاً عسكرياً بين إسرائيل وهذه الدول قد بلغ مستويات متقدمة في سياق الاستعداد لمواجهة تبدو قريبة مع التهور التركي. ولأن صراع المشاريع بين تركيا وإسرائيل أصبح صراعاً حتمياً، ومما يعد ذي صلة ودلالة بموازين هذا الصراع؛ نجاح رئيس علوي أمس الأول معاد للتوجهات الأردوغانية في انتخابات الطرف الشمالي من الجزيرة القبرصية، والتي احتلتها تركيا عام 1974.
أما المواجهة الثانية، فهي مع مشروع السلام، وهذا نمط جديد من التحديات لابد إنه يباغت السياسة التركية بجديته وتسارعه، كما لا يجري وفق التقديرات والتصورات الأردوغانية، مما سيترك أثراً مُربِكاً على الأجندات والسياسات التركية الداخلية والاقليمية على حد سواء. وبالتأكيد لم يكن في حساب السلطات التركية إن القاعدة الحزبية والشعبية الكردية ستتفهم وتنفذ سريعاً التوجهات الأوجلانية بالغة العمق في شكلها ومضمونها، ومن نافل القول إن مبادرة القائد أوجلان، التي انطلقت قبل عام بقصد إرساء سلام تاريخي في حياة الدولة والمجتمعات داخل تركيا؛ قد حُظِيَت بتواتر محطاتها، بدءاً بحل الحزب لانتهاء وظيفته التاريخية، مروراً بخطوات رمزية؛ حَرَقَ من خلالها المقاتلون أسلحتهم، وأخيراً طلب حركة حرية كردستان من المقاتلين مغادرة الأراضي التركية، واللافت هنا ليس الالتزام الصادق من الجانب الكردي لخطاب السلام الذي دشنه أوجلان؛ بل رجع صداه على جبهة القوى والأحزاب التركية، وحجم الحرج الذي أوقعها فيه، وإذ لا يجوز أن يقفز المراقب فوق آخر تصريح لدولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية، وشريك أردوغان بالحكومة، حين وصف فيها مواقف القائد أوجلان بأنها توحي بالثقة والمصداقية.
هذا يفيد بأن تلويح السلطات التركية باستخدام تفوق القوة لكسر إرادة الشعوب الواقعة تحت سلطتها، والتي طالما تغنت بها الحكومات المتعاقبة؛ أصبح حلماً محبطاً بفعل الردع الإسرائيلي المتمكن والحاسم.
والإبقاء على سياسة الجور والانكار لحقوق المكونات وطموحاتها الثقافية والسياسية؛ هو أمر بات بمنتهى الخطورة بسبب التداعيات التي ستخلفها مبادرات السلام الأوجلانية المتلاحقة.




