تظـ.ـاهرات السـ.ـاحل السوري تَدُقُّ المـ.ـسمار الأول في نـ.ـعش سـ.ـلطة دمشق

محمود علي
تُعَدُّ تظاهرات مناطق الساحل السوري وحمص وريف حماة الغربي، بداية تغيير في مسار الصراع الدائر داخل سوريا وعليها، لجهة كسرها حاجز الخوف الذي نشرته السلطة في دمشق عبر أدواتها الإرهابية المنفلتة، بأنها وضعت حدّاً للمجازر المرتكَبة؛ إن كانت ضد الطائفة العلوية أو سائر المعارضين لنظام حكم “هيئة تحرير الشام” وحلفائها في مختلف المناطق السورية، وأكدت إمكانية أن تواجِهَ الكلمة قوة السلاح وتردعه.
إن كانت دعوة رئيس المجلس الإسلامي العلوي في سوريا والمهجر الشيخ “غزال غزال” شرارة انطلاق التظاهرات، فالمؤكد أنها جاءت ضمن صيرورة مفصلية تمر بها سوريا، وكنتيجة وردَّ فعل على ممارسات سلطة الأمر الواقع، التي أوغلت كثيراً في دماء السوريين، ووصلت الاحتقان إلى حد الانفجار على شكل تظاهرات، التي يبدو أنها بدأت بكتابة الأحرف الأولى لنهاية نظامها، على غرار النظام البعثي البائد. وكأنه كُتِب على السوريين أن يحتفلوا بسقوط نظامَين اثنين في مناسبة واحدة.
تأكّدَ خلال نحو عام من تعيين هذه الجوقة “الكراكوزية” على سدة الحكم في سوريا، أنها لا تجيد سوى لغة القتل والخطف، وبث النزعات الطائفية والمذهبية، والحض على الكراهية، وتقسيم المجتمع السوري المقسَّم أصلاً، إلى جانب تسليم قرار البلاد على طبق من ذهب إلى القوى الإقليمية والدولية، وبيع المقدرات السورية وإفقار الشعب، ومحاولة استئثارها بالسلطة، وكأنها الحاكم بأمر الله. لم يقتصر نهب البلاد وتدميرها على الثروات، بل طال رموزها وقيمها الثقافية التي بنتها أجيال متعاقبة. غيرت المناهج لتناسب نهجها السلفي والديني الإرهابي، حيث ألغت أعياداً وطنية شكلت ذاكرة السوريين لعقود طويلة، مثل عيد الشهداء وحرب تشرين، نزولاً عند رغبة مشغّليها الإقليميين والدوليين، إلى جانب إزالتها النصب التذكارية في عدة مدن سورية، مثل تمثال الشهداء في ساحة سعد الله الجابري بحلب، وكذلك محاولة شبيحتها تحطيم تمثال الشخصية الوطنية بامتياز، وقائد ثورة الساحل الشيخ “صالح العلي”، وقبلها حطمت تمثال البطل السوري قائد ثورة الشمال “إبراهيم هنانو” في بلدة “كفر تخاريم”. إن توجهات هذه الفئة تُعبّر عن حقدها على كل ما يناسب أفكارها الظلامية القرووسطية، والتي تعيش خارج التاريخ والواقع، وتسعى لإعادة المجتمع السوري إلى عهود البداوة، وتحت يافطات دينية باتت عبئاً على البشرية ولا معنى لها في يومنا هذا، وتثير القرف والاشمئزاز، وتخلق شخصيات تعيش في الماضي البغيض وتقطع صلاتها بالحاضر والمستقبل، وتعارض كل تطور حضاري للبشرية. هذا ما تعمل عليه تحديداً السلطة الراهنة في دمشق الآن.لم تتوقع السلطة أن يلبي أبناء الطائفة العلوية نداء شيخهم الجليل، وتخرج هذه الأعداد الهائلة في تظاهرات، وفي أجواء ماطرة، شارك فيها النساء وجميع أطياف المجتمع العلوي، وبمختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية. تركزت مطالب المتظاهرين حول مطالب إخراج المعتقلين واللا مركزية السياسية والفيدرالية، ووقف القتل الطائفي، وخطف النساء العلويات، وحرمة الدم، ومناصرة حمص بعد أحداثها الأخيرة.
حيث هتف المتظاهرون في اللاذقية “دم العلوي مانو رخيص، ودم السنّي مانو رخيص، دم الدرزي مانو رخيص، دم المسيحي مانو رخيص، دم الكردي مانو رخيص …”، في لوحة تجمع أشلاء ما فتته النظام السابق والحالي من جسد المجتمع السوري وتعيد إليه لحمته الوطنية.بالتأكيد الشكل التنظيمي الراقي للتظاهرات والحماسة البادية على المشاركين فيها؛ عبّر بكل وضوح عن عمل دؤوب أُنْجِزَ من قبل قوى متعددة حتى وصل إلى هذا المستوى المتقدم من الإعداد والتنسيق. وهو عمل لا يُستهان به أو التقليل من شأنه في ظل القبضة الأمنية على البلاد، وخاصة على مناطق الساحل وذات الأغلبية العلوية. فالتظاهرات لم تكن رد فعل عفوية، بقدر ما كانت عملاً منظماً استغرق وقتاً ليظهر بهذا الشكل الحضاري، ويقض مضاجع السلطة ويكبّلها. فرغم الانتشار الأمني الكثيف في جميع مناطق التظاهر بغرض الحماية (حسب ادعائهم)؛ إلا أنه حدث إطلاق النار في الهواء وعلى المتظاهرين لتشتيتهم، ما أدى لسقوط عدد من الشهداء والجرحى، كما طالت اعتقالاتهم النساء قبل الرجال.
التظاهرات شكّلت حالة الصدع الأولى في جدار سلطة الأمر الواقع، وبالتأكيد أن هناك قوى إقليمية ودولية كانت تراقبها عن كثب. ففي حين أكدت أنباء أن عدة طائرات مسيَّرة تابعة للتحالف الدولي كانت تجوب سماء مناطق الساحل، وتوثّق كل شيء؛ فإن مسؤولين في واشنطن، أشاروا إلى أنهم يتابعون التظاهرات وتطور الأحداث في سوريا، ما يعد مؤشراً على ضوء أخضر من قبل بعض تلك الأطراف بانطلاق التظاهرات وتلقيها دعماً سرياً منها. وأن تحذيراً صدر منها للسلطات بعدم التعامل معها بعنف، وعدم التورط بارتكاب المجازر وقتل المتظاهرين.
في ظل الأوضاع المتوترة في سوريا عموماً، تأتي أهمية هذه التظاهرات والاستجابة التي قوبلت بها دعوة الشيخ “غزال غزال”، في أنها تكرس مرجعية الشيخ الدينية والسياسية كزعيم لـ”العلويين”، وهي مسألة إشكالية معقّدة، وتثير الهواجس لدى البعض، إذ يعاني العلويون من تشتّت مزمن وعجز عن إنتاج زعامة خلال المئة عام الفائتة، وهي معضلة ازدادت تعقيداً خلال الحقبة الأسدية، كما وأنها تعبّر عن غياب كامل للقوى العلمانية والديمقراطية للمجتمع العلوي، طالما أنه معروف عنه أنه مجتمع علماني ومنفتح، من حيث أنه شكل البذرة الأولى لمعارضة نظام الأسدين على مرّ عقود طويلة، فكان أغلب المعتقلين السياسيين في سجون الأسدين من أبناء الطائفة العلوية، ومن تيارات سياسية علمانية وديمقراطية وشيوعية متعددة، إضافة إلى بعض الأطياف المحسوبة على أنصار “صلاح جديد ونور الدين الأتاسي” في الحقبة ما قبل انقلاب حافظ الأسد عليهم، حيث أن معظمهم قضوا حياتهم في سجونه بعد ذلك.
هل اختصرت كل تلك النخب السياسية والثقافية الواسعة الانتشار في مناطق الساحل في شخصية دينية تصدرت المشهد وباتت تقود المجتمع العلوي، أم أنها أيضاً تمثل ردة فعل بنفس القوة تجاه السلطة الحالية التي لا ترى نفسها خارج اللوحة والتمثيل الديني الطائفي، أم أن القوى الوطنية العلمانية والديمقراطية تعاني الضعف والتشتت، وغير قادرة على قيادة المجتمع في هذه المرحلة العصيبة، خاصة أنها تعرّضت لضربات قاصمة طيلة تاريخها الطويل، إن على يد نظام الأسد الأب أو الابن، وكذلك النظام الحالي، وخير مثال على ذلك حزب العمل الشيوعي. الثابت أن التمثيل الديني يظل قاصراً عن التعبير عن توجهات المجتمع العلوي.
إلا أن هناك تمايزات وفوارق تاريخية عديدة بين التمثيل الديني العلوي والسني السلفي المتشدد، حيث الأول يميل إلى الاعتدال والمرونة، ويقبل الآخر المختلف معه دينياً ومذهبياً، ولا يعارض أي توجه علماني وديمقراطي، بل يعتبرها أساساً في بناء الدول والمجتمعات. وفي هذه الحالة يبقى دوره هامشياً إذا ما قورن بالتوجهات العامة لدى المجتمع العلوي المتحرر من عقد الدين والمذهب والطائفة، ولكنه أجبر للعودة للتمسك به، كخيار وحيد أمامه في ظل حملة الإبادة والرفض المتواصلة التي تتعرض له من قبل السلطة والموالين لها.انتشرت أخبار غير مؤكدة عن تواجد الشيخ “غزال” في قاعدة حميميم تحت الحماية الروسية، وهو أمر مستبعد في ظل عدم وجود أية مؤشرات على صلة أو تنسيق مع الروس، بل الأخير يميل إلى العمل مع النظام الحالي حفاظاً على مصالحه الحيوية، فإن لم يقف الروس ضد التظاهرات، فإنهم في ذات الوقت لن يدعموها أيضاً.
خلقت تظاهرات الساحل السوري حالة وطنية عابرة للأطياف والأديان والقوميات في المشهد السوري الراهن، وبثت روح الشجاعة والتفاؤل لدى مكونات أخرى من المجتمع السوري بإمكانية معارضة سلطات الأمر الواقع علناً، وشكلت أملاً لديها في إنهاء حالة الفوضى والتهميش، حيث بدأ كرسي السلطة تحتها يهتز على وقع هتافات أهالي اللاذقية، جبلة، طرطوس، حمص ووو، وبدأت تتلمس رأسها، وتضعها أمام وقائع جديدة، مفادها أن الدعم الخارجي لا يمكن أن يكرّسَ سلطتها بأي شكل من الأشكال، وأنها أمام استحقاقات وطنية عاجلة؛ إما أن تقبل بالتغيير والتحول إلى نظام لا مركزي سياسي أو فيدرالي اتحادي علماني ديمقراطي، أو أنه سيلقى مصير سابقه، ويُمحى من ذاكرة السوريين، وإلى الأبد. وكل الأبواق التي تروّج لها في الشارع السوري، عبر تهديد المكونات السورية الأخرى، ونشر خطاب الكراهية والحقد الطائفي، الذي لن تنفعها أمام السيول الجارفة التي ستسحقها هي والموالين لها، وفي لحظة لم تكن في حسبانهم أبداً.
لن تتوقف التظاهرات والاعتصامات ضد سلطات الأمر الواقع، بل ستكبر ككرة الثلج كل يوم، لتمتد إلى مناطق أخرى تزعم السلطة أنها “موالية” لها، مثل حلب ودمشق وحماة، وستعيد تشكيل المشهد السياسي والعسكري السوري، ولن ينفع السلطة اتكالها وطلبها الدعم من دول مثل تركيا وغيرها، بل ستذعن لمطالب الشعب السوري، وفق المعادلة التي حددها قائد قوات سوريا الديمقراطية الجنرال “مظلوم عبدي” في قبول مشاركة “العلويين والدروز” في المفاوضات بين حكومة دمشق والإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا، ووفق صيغة اللا مركزية السياسية أو الفيدرالية الاتحادية.




