آخرى

من حي الشيـ.ـخ مقصود والأشرفية إلى غـ.ـز.ة.. دروس الـمـ.ـقـ.ـاومـ.ـة والانـ.ـكـ.ـسـ.ـار

محمود علي

تدور تكهنات وتوقعات كثيرة حول النتائج التي تمخضت عنها جولة مفاوضات الوفد العسكري والأمني لمناطق شمال وشرق سوريا مع حكومة دمشق، وقبلها الاجتماعات التي عقدتها قيادة قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، وهل ستتمكن من إحداث اختراق في الجدار الصلب الذي تشكل بين حكومة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، وبالتالي تنطلق نحو عقد اتفاقيات وتفاهمات جديدة ضمن إطار اتفاقية 10 مارس/ آذار، أم أنها كانت حوارات “توجُسّية”، كل طرف توجَّسَ مواقف وهواجس الطرف الآخر، أم زادت تلك الاجتماعات الطين بِلَّة وأوصلت الأوضاع إلى حافة المواجهة العسكرية، كما تشير الدلائل والوقائع على الأرض من خلال إغلاق المعابر بين مناطق سيطرة الحكومة ومناطق شمال وشرق سوريا، إضافة إلى فرض حصار خانق على أحياء الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب؟
يمكن قراءة تلك الاجتماعات واللقاءات على ضوء مقاومة حيي الشيخ مقصود والأشرفية والنتائج التي أفرزتها، فهي فتحت الأبواب أمام إعادة الحوار بين الطرفين، وكسرت الجمود الحاصل منذ عدة أشهر. يتجاهل البعض، عن عمد أو دون وعي، مقاومة الحيين التي غيّرت موازين القوى في المدينة وفي سوريا عموماً، وشكلت أول امتحان لقدرة الطرفين على تحقيق إنجاز ما في الميدان، وتبيَّن أن أي تعويل من قبل دمشق على حسم عسكري وقلب المعادلات لصالحها، لا يغدو سوى مجرَّد وَهمٍ تتعلق به بعض الأطراف المحسوبة عليه. فبعد مقاومة الشيخ مقصود والأشرفية لن يكون كما قبلها، فالهزيمة التي لحقت بها، ستجعلها تعيد حساباتها من جديد، ولن تُقدم بسهولة للذهاب نحو مواجهة عسكرية مفتوحة مع قوات سوريا الديمقراطية في مناطق أخرى، ومهما مارست تركيا الضغوط عليها.
مقاومة الشيخ مقصود والأشرفية رسمت مساراً جديداً في سوريا، بأن الخيار العسكري لم يعد مجدياً مع قوات سوريا الديمقراطية بأي حال من الأحوال، ولا بد من العودة إلى الخيار السياسي والمسار التفاوضي، وبما يلبي مصالح الطرفين. جغرافية لا تتجاوز مساحتها خمسة كيلومترات مربعة تمكنت من دحر هجوم كبير لفصائل تابعة لوزارة الدفاع السورية وللاحتلال التركي، بالتأكيد لها دلالاتها البعيدة في ضرورة الركون إلى التفاهمات والحلول السلمية، ووضع نهاية للهمروجة والهوبرة التي أقامتها أطراف مقربة من السلطة الراهنة في دمشق، وأنها لن تفضي إلا إلى مزيد من الشروخ والكراهية بين أطياف المجتمع السوري المتنوع. اعتقدت السلطة ومعها الفصائل التابعة للاحتلال التركي أن السيطرة على الحيين ستكون نزهة، لترتكب فيهما المجازر وعمليات اللصوصية والقتل والحرق على غرار مناطق الساحل والسويداء، وهو ما لم تتمكن منه، واضطرت تحت ضغط المقاومة أن تطلب بوقف لإطلاق النار، فيما مارس التحالف الدولي وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية ضغوطاً على دمشق وتركيا لوقف هجماتها على الحيين، وهو ما أدى إلى هدنة هشة لم ترسخ لوقف إطلاق نار دائم بعد.
تبين خلال الساعات الثلاث التي دارت فيها المعارك حول الشيخ مقصود والأشرفية، أنها – أي المقاومة – قلبت الأوضاع في حلب رأساً على عقب، ولم تعد المعارك محصورة ضمن الحيين، بل انتقلت إلى أحياء أخرى، ما هدد بتفجير الحالة الأمنية في المدينة برمتها، ولتفتح الطريق أمام انتقال الحرائق إلى مدن سورية أخرى. تولدت قناعة لدى معظم أبناء حلب أن الفصائل المرتبطة بدولة الاحتلال التركي هي أقدمت على الهجوم على الحيين، ودون سبب وجيه، وأن الحكومة غير قادرة على ضبط سلوك تلك الفصائل المنفلتة التي لا تتقيد بأوامر وتعليمات سلطة دمشق. ولهذا بدأت حركة نزوح كبيرة من أحياء عديدة إلى خارج المدينة، وهو ما أدركت دمشق خطورته عليها وكان السبب الأول الذي دفع الأطراف المهاجمة لطلب وقف إطلاق النار.
انتصار المقاومة في الحيين فرضت على دمشق القبول بالجلوس حول طاولة الحوار مجدداً، والبدء بالاجتماعات التي وضعت النقاط على الحروف، ولتنطلق نحو آفاق جديدة؛ عنوانها الرئيس قبول الشروط التي فرضتها قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية حول آلية اندماجها مع قوات الجيش السوري، على أن يكون الاندماج جزئياً وليس كلياً، كما تتصوره دمشق ومعها دولة الاحتلال التركي، وتعدّ هذه من أكثر القضايا إشكالية وحساسيةً وخلافاً سابقاً والآن، حيث قبلت دمشق على بقاء (قسد) كتلة واحدة تحت قيادتها الحالية وإدخال بعض عناصرها وتشكيلاتها في الجيش السوري الموحّد، بما يعيد ضبط العلاقة بين المركز والمكوّنات المحلّية على أساس وطني جامع، وتحتفظ الإدارة بإدارة مناطقها، إضافة إلى قبولها مبدئياً بمبدأ اللا مركزية كشكل لإدارة الدولة، فيما سيتم لاحقاً البحث في ملفات النفط والثروات، وكذلك المعابر وافتتاح بعض مؤسسات الدولة في مناطق شمال وشرق سوريا. فيما تم الاتفاق حول توسيع جغرافية عمل قوات وحدات مكافحة الإرهاب (YAT) لتشمل كل الأراضي السورية، وهو ما يفسر بأن قوات التحالف، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا مارست ضغوطاً كبيرة على دمشق لقبول الانضمام إلى تحالف مكافحة الإرهاب، وهي إشكالية لها تبعاتها العديدة أيضاً.
لعل مخرجات اجتماعات دمشق الأخيرة لم يُفصَح عنها بعد ولم تتبلور بالشكل الكافي، إلا أن موضوع اللا مركزية أخذ حيزاً كبيراً من النقاشات والوقت والاهتمام، وهو بطبيعة الحال بحاجة إلى نقاشات معمقة لرسم وضبط العلاقة بين المركز والأطراف، وبما يحافظ على وحدة الدولة، ويعزز الثقة بين الطرفين وبأنها لا تؤدي إلى التقسيم بأي حال من الأحوال. اللامركزية هي المنطلق والأساس في تهدئة الأوضاع في سوريا، حيث تأكد أن المركزية المفرطة التي تمارسها دمشق ستؤدي إلى تشظي البلاد، وثَبُتَ لحكومة دمشق بالدليل القاطع خطأ وكارثية “الأغلبية تحكم” أو “من يحرر يقرر”، واضطرت مرغمة في النهاية القبول باللامركزية، ولو على مضض وبشكل شفوي.
تحاول تركيا قطع الطريق على أي تفاهمات وتوافقات بين الإدارة الذاتية وحكومة دمشق، واستدعاؤها لكامل أركان حكومة “الشرع” غداة انتهاء الاجتماعات مع وفد شمال وشرق سوريا، دليل أنها هي المعرقل الأول لعدم تنفيذ بنود اتفاقية 10 مارس/ آذار، فهي تجد في تحوّل سوريا إلى دولة وطنية مستقرّة تهديداً لمصالحها ونفوذها المعتمد على الحرب والإرهاب وتصعيد العنف والاقتتال، ومن خلال أذرعها تحاول إجهاض كل توافق سوري – سوري، وقطع الطرق بين مناطق شمال وشرق سوريا وفرض حصار جائر لا مبرر له أحياء الشيخ مقصود والأشرفية، يأتي في هذا الإطار وهدفه الدفع نحو مواجهة عسكرية تأتي على كل التفاهمات بين الإدارة الذاتية ودمشق والانقلاب عليها.
إلا أن الولايات المتحدة وفرنسا تلعب دوراً محورياً ونشطاً في أي تفاهمات بين الإدارة الذاتية ودمشق، وهي الضامنة لها، وزيارة قائد القوات الأمريكية الوسطى “السنتكوم” الأدميرال “براد كوبر” مع مبعوث الرئيس الأمريكي إلى سوريا “توم باراك” دمشق مرتين خلال عشرة أيام، وزيارته إلى الحسكة، دلالة واضحة على وضع الإدارة الأمريكية ثقلها للدفع نحو توصل الإدارة الذاتية ودمشق إلى حل نهائي، وكذلك تشير بوضوح إلى قطع الطريق على أي تدخل تركي سلبي في الوضع السوري. فيما إسرائيل هي الأخرى، وبعد أن تخلصت من كابوس غزة نوعاً ما، ستفعّل دورها في سوريا، ولن تترك المجال لتركيا كي تمارس عنجهيتها وغطرستها فيها كما يحلو لها، وتهندس كل شيء بما يتوافق مع مصالحها، بل ستعمد إلى التضييق عليها وعدم السماح لها بالسيطرة العسكرية عليها، ما يجعل الفصائل التابعة لتركيا دون غطاء، ولا تستطيع تركيا حمايتها من القصف الإسرائيلي، وهي بحد ذاتها رغبة “الشرع” وبعض الأطراف داخل السلطة أيضاً.
وقف الحرب في غزة درس بليغ لتركيا ولجميع الأطراف داخل سوريا والتي تعتقد أنها من خلال الحرب ستصل إلى مآربها وتلوي ذراع قوات سوريا الديمقراطية، وتستبيح مناطق سيطرتها، فالمناخ العالمي والإقليمي يتجه نحو التهدئة في معظم مناطق الصراع. ففي سوريا بعد أن استنفدت القوى المتدخّلة في الشأن السوري فرص التعايش والاستثمار في الصراعات الداخلية، بدأت تجد أن الاستثمار في السلام صار أنجع، وأكثر فائدة لها من وضع كل مقدّراتها في الصراعات والحروب، ما يعني أن الشرق الأوسط عموماً يقف أمام حالة نزع فتيل الحروب من غزّة إلى لبنان وسوريا، وضمناً تركيا. فأي تفكير خارج هذا السياق؛ قد يودي بصاحبه إلى عواقب وخيمة، وهو ما لم تدركه تركيا بعد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى